رياض الواصلين >> الأشعار و المواجيد >> شرحي على قصيدة " ما لذّة العيش إلا صحبة الفقراء "

10 مايو 2017 03:57


بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين

أمّا بعد :

فإنّ أشعار وقصائد أهل الله تعالى من كمّل العارفين بالله تعالى كلّها أذواق ومواجيد تحتوي خمرة توحيدية وأحوالا نبويّة , فهي تترجم أحوال ناظميها وصفاء قلوبهم ومحبّتهم لربّهم ولرسوله عليه الصلاة والسلام , وإنّ من أجمل القصائد التي عنيت بتفسير آداب الطريقة , ودلّت على عناوين وعلامات أهل الحقيقة , قصيدة ( ما لذّة العيش إلاّ صحبة الفقراء ) لناظمها الشيخ الكبير العارف الجليل سيدي أبي مدين الغوث دفين تلمسان رضي الله عنه فأحببت أن أضع عليها تقييدا وجيزا تبرّكا بكلام هذا القطب الكبير والنحرير الشهير فهذه القصيدة من أرقّ وأشفّ مواجيد أبي مدين رضي الله عنه

فأقول وعلى الله تعالى التيسير والقبول : ( الصفاء نفحات من قصيدة ما لذة العيش إلاّ صحبة الفقراء )


يقول الناظم رضي الله عنه :

( ما لذة العيش إلا صحبة الفقراء..... هم السلاطين والسادات والأمرا )


لا يمكن أن يعبّر عن الأحوال إلاّ مكابدها , ولا المحاب إلاّ ذائقها , ولا المحاسن وبدائع سحر الجمال إلاّ مشاهدها , ولا عن الحقيقة إلاّ عارفها وواصفها , ذكر هنا للباحث عن حقيقة اللذّة والنعيم في الدنيا أنّه لا يجده إلا بصحبته لأهل الله تعالى , فلا نعيم في الدنيا يعادل نعيم صحبتهم إذ أنّ مجالسهم كما ورد في الحديث رياض جنان وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم تغشاهم الرحمات وتنزل عليهم السكينة وتحفّهم الملائكة فهي مشاهد ومذاقات جنانية نعيمية , فهم النعيم السابق للنعيم اللاحق فلا تحلو الجنان إلاّ بحضورهم وتحت نظرات سرورهم ( غدا ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه ) فلا لذّة تعادل لذّة صحبتهم ( الصحبة يا رسول الله ) لأنّه الجنّة صلى الله عليه وسلّم وكذلك بالتبعية له أهل الله جميعهم عليهم السلام

فكان الناظم رضي الله عنه من الذائقين الكمّل لهذه الحقيقة وهي حقيقة لذّة العيش بصحبته لإخوانه الفقراء من أهل الله تعالى ( فألّف بين قلوبهم ) فحكى حاله الذي وجده في قلبه تجاههم لذا وصفهم بأنّهم السلاطين والسادات والأمراء فهم سادات الكون وملوك الآخرة فحكى حاله ومحابه فيهم فرآهم بفؤاد الكمال وببصيرة الجمال بعد أن خفق قلبه بمحبّتهم وإنتعش وجدانه بمودّتهم فغاب في بديع جمالهم وترجم محاسن خصالهم , فكأنّه بعد أن صحبهم تذكّر ما كانت عليه حالته الأولى قبل زمان صحبته إيّاهم فاستشعر الفارق الكبير بين تلك الحالتين لما وجده من النعيم وفي صحبتهم من الخير العميم , فذكر وصفهم الظاهري حتى يعرف هؤلاء القوم وأنّ حالتهم الظاهرة الفقر فهم فقراء إلى ربّهم من حيث أنّ ربّهم الغنيّ الحميد وهم سادات مكرمون من حيث أنّ ربّهم الكريم الرحيم , أدخلهم في حصن حفظه , وجنّة كرمه , وأحياهم بشراب محبّته

قال الناظم رضي الله عنه :

( فاصحبهم وتأدب في مجالسهم ..... وخلّ حظك مهما قدموك ورا )

الفقير متى نظر إلى إخوانه بنظر المحبّة والتعظيم , ولاحظهم بعين التوقير والتكريم , فإنّه لا محالة يراهم في مرتبة السلاطين والأمراء والسادات الشرفاء , فيستشرف إلى فخامة صحبتهم , ويتطلّع إلى شرف خدمتهم , لأنّ حقيقة الصحبة هي الخدمة وما أفلح من أفلح إلاّ بصحبة من أفلح أي ما أفلح من أفلح إلاّ بخدمة من أفلح , فإنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هم خدّام الحضرة النبوية الشريفة فهم خدّامه صلى الله عليه وسلّم , وهذه الخدمة لحضرة أهل الله مع ما فيها من الشرف والقرب والقبول , وما فيها من البشائر بالوصال , وكمال النوال , إلاّ أنّ طريقها مسدود , وبابها موصود , إذا لم يصاحب تلك الخدمة ويرافق تلك الصحبة شروط آدابها , ومفاتيح أبوابها , فكانت الصحبة قرينة الأدب والأخلاق , والخدمة صنو الترفّق والأشواق

فليست إلاّ خدمة بحبّ , وصحبة بودّ , وهذا أكبر باب لفهم ما يجب لتلك الصحبة من الآداب الجميلة , وأخلاق الفضيلة , وقد قيل : التصوّف كلّه آداب فمن زاد عليك في الأدب زاد عليك في التصوّف , وفي الأثر والخبر ( لقد أدّبني ربّي فأحسن تأديبي ) لذا قال الناظم معدّدا ذكر تلك الآداب ذاكرا شروط حقائق الإنتساب : ( وخلّ حظّك مهما قدّموك وراء ) فذكر أوّل شرط من شروط آداب الصحبة وهو ترك الحظوظ في طلب أجرة الخدمة

وذلك بترك حظوظ النفس في صحبتهم وراء مهما قدّموك , لأنّ من تقدّم بحظّ فما وفّى حقوق الصحبة , ولا إعتنى بموجبات الخدمة , لما في سجيّة الإخوان , ومعادن الخلاّن , من شهود الكمال في غيرهم , وشهود النقص في أنفسهم , فحذّر هنا من الإخلال بآدابهم , والتسوّر على محرابهم , فلا تتقدّم عليهم مهما قدّموك , فإنّهم ما قدّموك إلاّ لحسن ظنّهم فيك , وتعظيم لك منهم , لشهودهم التقصير في أنفسهم , والكمال في غيرهم , فلولا مكانتهم السامية , وآدابهم الكاملة ما قدّموك , لأنّهم أهل الخدمة وعلى ذلك درجوا , وقد كان صلى الله عليه وسلّم يخدم أصحابه بنفسه ويسهر على راحتهم ويدعو لهم ويتفقّد فقيرهم ويعود مريضهم ويواسي محزونهم

فلا تنظر إلى القوم إلاّ أنّك أدناهم وأفقرهم ,وأجهلهم وأعصاهم , فلا ترى لنفسك عليهم حقّا , ولا لخدمتك لهم فضلا , بل احمد الله أنّهم قبلوك لخدمتهم , وشرّفوك بصحبتهم , فإنّ القبول في طريقتهم , هي أصل المنّة والقربة , ومفتاح المحبّة والوصلة , ولا تزال الخدمة ترقّ , والقلب يصفو , والمحبّة تزداد , والودّ يعلو , حتى يقول قائلهم ( متى يا كرام الحيّ عيني تراكم ---أو تسمع الأذن من تلك الديار نداكم ) فتضحى الخدمة غراما , والصحبة محبّة وهياما , فتثمر في القلب من النور أفواجا , وفي الروح تنتج سراجا ومعراجا , فيكثر الأدب , ويزدان الجنان بالتواضع , وبالفؤاد يحلّ النور ساطع ....

قال الناظم رضي الله تعالى عنه :

واستغنم الوقت واحضر دائما معهم..... واعلم بأن الرضا يختص من حضرا


خدمة القوم تثمر المحبّة فتواصلها , وتجتذب الشوق إليهم فتداومه , كيف لا وهم كما قال الناظم السادات والسلاطين والأمراء فمن يملّ من حضور مجالسهم , أو يكلّ من مشاهدة محاسنهم , وبديع جمالهم , أو يصبر على مفارقة طيب خصالهم , هذا متى علمت أنّ مجالسهم مجالس ذكر وكلامهم كلام حكمة وتذكير وفكر وأنّها رياض جنان , وباب رحمة وحنان , وتيجان إحسان , وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم , ولا يعذّب ببركتهم رفيقهم , يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانتهم من الله تعالى يوم القيامة فكيف إذن بخديمهم أو بمحبّهم فكيف بمؤثرهم على نفسه فكيف بالفاني فيهم محبّة والعاشق فيهم هياما ومودّة ( إن قطعوا رجلي جئت على الأخرى *** وإن قطعوا الأخرى حبوت وجئت )

حثّ الناظم هنا المنتسب الذائق , المحبّ الشائق والخادم العاشق أن ليس له من الأوقات إلاّ ما حضر فيه معهم , فلا وقت يعادل وقت صحبتهم , ولا زمان تنتقش معانيه في قلبه غير زمان خدمتهم قال بلال رضي الله عنه عند النزع ( غدا ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه ) فليس له من الحظوظ بعد موته إلاّ حظّ الإجتماع بالإخوان , والنظر في محيّا أؤلائك الخلاّن , إذ لا تحلو الدنيا إلاّ بهم قال صحابي من الصحابة رضي الله عنهم ( ما إن نفضنا التراب من رسول الله حتّى أنكرنا قلوبنا ) ولا تحلو الآخرة إلاّ بهم ولا يكون نعيم في الجنان إلاّ في حضورهم قال ذلك العاشق المحبّ الذائق لحبيبه عليه الصلاة والسلام ( يا رسول الله إنّ المرء ليحبّ القوم ولا يلحق بهم ) فأجابه الحبيب صلى الله عليه وسلّم ( المرء مع من أحبّ يوم القيامة ) وقال آخر ( أسألك مرافقتك في الجنّة ) فليس لهم قصدا من الجنان غير الإجتماع بالإخوان والنظر إلى وجه ربّهم الديّان

على هذه المحبّة كانت صحبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت صحبتهم فيما بينهم , حتى أنّ الصدّيق إستأذن أن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثمّ إستأذن عمر رضي الله عنهما كلّ هذا تعليما لنا بالحال وتفهيما , وأنّ ديننا دين محبّة وخدمة فهما لا يفترقان , وإنّ في محبّة الصوفية بعضهم لبعض آيات مشهودة , ورايات مشهورة منشودة , ومحبّتهم لمشائخهم ليس لها صورة غير صورة أؤلائك الصحابة الكرام والخلاّن الفخام

فالحضور معهم يكون بالجسم والروح , وبالقلب والفكر , فمتى تعذّر هذا حضر هذا كما فعل بلال رضي الله عنه وهو في أرض الشام فإنّه مازال لأولائك الأحبّة ذاكرا ولتلك المحاب فاكرا , فما غفل عنهم لحظة من لحظاته حتّى قال والشوق في النزعات يغذّيه والغرام يفنيه ( وا طرباه غدا ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه ) فإنّهم لا يفترقون لا في الدنيا ولا في اللآخرة , وهكذا هم أحباب الله تعالى ومحبّيهم وخدّامهم على العهد ماكثون وإلى اللقاء يترقّبون ويتزيّنون ومثلما تكون الدنيا تكون الآخرة

لذا قال الناظم رضي الله عنه مخبرا عن حاله , واصفا لمحابه وخصاله , بطريق الكناية , في البداية والنهاية , بأنّ الحضور معهم هو غنيمة وقتك في هذه الدنيا ( لأنّ نعمة الإخوان عظيمة ليس لها في الأثمان قيمة )

فمن لم يستغنم أوقاته معهم فليس له بهم وصال , ولا لمحاسنهم له عنها أخبار , ولا شهود جمال , لذا قال رضي الله عنه : ( واعلم بأنّ الرضا يختصّ من حضرا ) أي حضر معهم قلبا وقالبا , خدمة ومحبّة , فحتما يشمله الرضا ونهاية الكرامة والإصطفاء , لما في الرضا من الدلال والجمال , والعطايا والقرب والنوال , فإنّهم أهل الله تعالى وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم كما في الحديث عن خير الورى

قال الناظم رضي الله عنه :

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل..... لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

يحكي الناظم رضي الله عنه شروط الآداب , كي يجني الفقير ثمرته من شجرة الإنتساب , فلما ذكر في البيت الثاني من القصيد قاعدة شروط الآداب وهي عدم التقدّم عليهم مهما قدّموك وخلّ حظّك وراء , بدأ بذكر تفصيل تلك القاعدة وما في طيّاتها من لزوم الآداب , فبدأ بذكر الصمت لأنّ من ترك حظّه وراء فأنّى يصحّ له الكلام , في حضرة أهل الله العارفين الأعلام , لذا أمره بإلتزام الصمت , إذ أنّه أوّل شرط من شروط تعلّم هذا العلم , فإنّه لا يصحّ التعلّم مع وجود الكلام وكثرة الحديث الموهم للعلم والفهم وكثرة الجدال كما قال سيدي محمّد المداني رضي الله عنه ( طريقنا فلا نزاع ولا جدال )

وردت أخبار نبويّة ترغّب في الصمت لما فيه من حكمة بالغة , ومنفعة حاصلة , حتّى كان الصحابة عليهم الرضوان يترقّبون قدوم الأعراب فيسألون رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيجيبهم فينتفعون بذلك فإنّ من علامة الصوفي التي تميّزه عن غيره قلّة الكلام وكثرة الحلم التي سيأتي الشيخ على ذكرها ويعني الناظم بالصمت عدم دعوى المعرفة والعلم لأنّ الفقير لا يجيء إلى القوم إلاّ بإعتقاده أنّه فقير من العلم بعد أن يغتسل من علمه وفهمه كما روي عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لمّا قدم على شيخه فطلب منه أن يغتسل من علمه وفهمه كي يحصّل معارف القوم وعلومهم

لأنّ شرط النوال من القوم الصمت في حضرتهم , وحسن السمت في مجلسهم , إلاّ ما كان ضرورة من الكلام يصحّح به الدين والتوجّه والأفهام , كما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسئلته المشهورة فقال : أخبرني عن الإسلام , أخبرني عن الإيمان , أخبرني عن الإحسان , أخبرني عن الساعة , أخبرني عن أمارتها , فكلّ سؤال لا يتعدّى كلمتين أو ثلاث , فكان الجواب من جنس السؤال , فأجابه وأمدّه بعيون جواهر الكلام , جوامع النبوّة , ومحاسن الفتوّة , وهكذا هم الصوفية الذين تلطّفت أفئدتهم فأضحت شبه ملكوتية , ومراسم نورية , فإنّهم لا يسألون إلاّ عمّا يحتاجونه في سيرهم وخدمتهم

سألت شيخي مرّة فأطلت السؤال _ فعاتبني قائلا : دعك من حشو الكلام وأوجز في السؤال , كما قال إبن العتاهية : ( دع عنك حشو الكلام *** إذا إهتديت لعيونه ) لأنّ طريق السادة جدّ لا هزل فيه , وحقّ لا لهو فيه , والصوفية لا يحبّون الفقير الثرثار كثير الكلام , إلاّ فيما ينفعه وينفع النّاس , لذا أوصى الناظم رضي الله عنه الفقير بلزوم الصمت في حضرة الإخوان , إذ أنّ كلامهم في الحقيقة لا يكون إلاّ غلبة , إمّا لفيضان وجد , وإمّا لهداية مريد كما ورد في الحكمة العطائية أما اليوم فكثير من الفقراء يعيبون على شيوخهم عدم كثرة الكلام معهم لظنّهم أنّه طريق كلام , ولكن طريق القوم هو حضرة الله من آدابها الصمت في حضرة الشيخ والإخوان إلاّ متى سألوه أو طلبوا منه الكلام , فوقتها كما قال الناظم يصحّ له حكاية حالة وبيان فقره وإفتقاره وذلك في قوله ( إلاّ إن سئلت فقل لا علم عندي وكن بالجهل مستترا )

الفقير لا يخرج إلاّ في أوصافه من فقر وذلّ وجهل وضعف لأنّه في سيره إلى طلب رضا ربّه ومعرفة مولاه وخالقه في مجاهدة نفسه قائما والنفس دائما ترنو إلى الظهور , وتحبّ التميّز عن الأقران يتلوه منه حال أو قال أو فعل علامة غرور , لذا تحتّم عليه الإستتار بالجهل إذ أنّه وصفه الملازم له المقيم فيه , لما في السؤال منهم ما قد يكون لك من الإختبار , أو علامة على سوء أدبك معهم أوما دلّت عليه سيمتك من الإفتخار , فالسلامة في الإستتار, وقولك : لا علم عندي , وكيف يكون لي علم, وأنا جئت طالبا علومكم , وسائلا راغبا فهومكم , لأنّ بسؤالهم لك في محلّ الإختبار قد يكون منهم لمعرفة مدى دعواك في نفسك وما لك فيها من الإنتصار , فيمنعوك في هذه الحالة علومهم , ويقطعون عنك معارفهم وفهومهم

هذا الحال قد دلّت عليه آيات بيّنات , من سيرة الصحابة الكرام , فكم مرّة يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم , فيقولون : الله ورسوله أعلم , يستترون بفقرهم , ونهاية ضعفهم , وإنّما يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم لينفعهم , فيسأل عليه السلام ليجيب , وهكذا هم القوم بأخلاق نبيّهم إقتدوا , ومن كأسه شربوا , فقد يسألونك ليجيبوك فيفيدوك , ولهذا ترى في بعض أجوبة الصحابة من الحكمة ودعوى قلّة العلم , كفي حديث : من المفلس : قالوا : المفلس فينا من لا زاد له ولا متاع , رغم أنّهم يعرفون أنّ رسول الله لا يسألهم عن الدنيا ولا عن هذا , فإستتروا بالفقر من العلم ليعلموا , وهكذا دأب أهل الله تعالى في صحبتهم لمشائخهم وإخوانهم , لذا قال الناظم : ( ولازم الصمت إلاّ إن سئلت فقل --- لا علم عندي وكن بالجهل مستترا )

قال الناظم رضي الله عنه : ( ولا تَرَ العَيبَ إلا فيكَ مُعتقِدا --- عَيباً بدا بيناً لكنه اسْتترا )

الفقير متى صحب القوم لينال فوائدهم , وينتفع بمآثرهم , لا بدّ له من ترويض قلبه بخدمتهم ليصلح عوائده , ويتخلّص من معايبه , وبداية هذا أن لا يلاحظ العيب والنقصان إلاّ في نفسه , لأنّه أتى إليهم معتقدا جهله وذنوبه , ومراعيا بعده عنهم وكثرة خطوبه , فقدم عليهم فيما هم فيه من الصلاح والتزكية راغبا , ولما هو عليه من الأسقام والدعوى راهبا , فإنّ القوم يغفرون الذنوب ويغضّون الأبصار عن العيوب

فالفرق بين الذنب وبين العيب أنّ الذنب يكون في وقت متى كان دون وقت بخلاف العيب فإنّه حالة ملازمة لصاحبها ما دام لم تتزكّى نفسه ويطيب معناه ومبناه , فما دام العيب موجودا وهو من أعظم الذنوب جزمت بمعافستك للذنب وهذا ما استوجب منك الإستغفار بلا سبب والمقصود بالسبب أنّ عيبك المستتر الذي هو عيبك الملازم لك يقتضي منك دوام الإستغفار , وملاحظة التقصير ودوام الإعتراف كما بيّن لك ذلك في قوله : ( وحطّ رأسك واستغفر بلا سبب --- وقم على قدم الإنصاف معتذرا ) وهذا سيأتي عليه

فلا ترى العيب أيّها المريد إلاّ فيك معتقدا , جازما معترفا , بما تراه في قرارة نفسك منه ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) وإنّما قال معتقدا : أي قلبا وحقيقة وليس فقط مجازا ظاهرا , فإنّ الإرادة تستوجب دوام اعتقاد العيب , وملازمة الإستغفار من الذنب , وهذا ما تراه عند القوم من كثرة إتّهامهم لنفوسهم , وكثرة مداومة إستغفارهم , ومراعاة التخلّص من حظوظهم ودعاويهم كي لا تفسد إرادتهم , فإنّ هذا العيب وإن كان مستترا عن العيون , فهو لا ينحجب عن العيون الباطنة , فكانت رؤيتك إيّاه في قرارة نفسك أمر يشاركك فيه أهل البصيرة كالشيخ المربّي الذي يعرف طرق معالجتك ودواءك النافع

فمتى اعتقدت العيب فيك أسهلت على الشيخ علاجك كزائر الطبيب , هذا فضلا عن علم الله تعالى فيك وبعيبك لقوله تعالى ( وكفى بربّك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) فمتى راعيت وراقبت عين مولاك الذي يتولاّك ويرعاك وعلمه به وبعيوبك وذنوبك وقفت على حدود حقيقتك , وتأدّبت على منهاج طريقتك , فاعتقدت العيب والنقصان , وداومت على الهروب منه والهجران , وعلامة هذا أن لا ترى عيبا من عيوب إخوانك إلاّ فيك , لأنّهم مرآتك , قال سيّدنا عمر رضي الله عنه ( رحم الله إمرء أهدى إليّ عيوبي ) أي ظاهرا وباطنا , هديّة قولية وهدية حالية

والحال عند الأبرار يغني عن المقال , فمهما استتر العيب فلا يمكنك إلاّ أن تعتقده , لأنّ إستتاره لا يخرجك عن إعتقاده , لوجود عين الله تعالى التي لا يجب أن تراعي سواها , فمتى إعتقدت عيبك رحمك الله تعالى فستره عن غيرك غالبا , فمراده منك دوام إعتقاده , كي تثبت قدمك في السير إليه , أمّا إذا لم تعتقده ورفضت الإعتراف به في قرارة نفسك كما فعل إبليس لعنه الله فحتما إنّ الله تعالى سيخرج أضغانك آجلا أم عاجلا , ويعفو الله عن كثير , وقد ورد في الدعاء : اللهم استرنا بسترك الجميل , اللهم لا تفضحنا في الدنيا ولا في الآخرة

فالناظم رضي الله عنه يريد هنا أن يأخذ بيدك في السير شيئا فشيئا كي لا يثنيك عن الوصول إلى الله تعالى نفس ولا دعوى ولا رياء ولا نفاق , فتكون كما أنت وكما يعلمه الله منك , ظاهرك كباطنك , فلا تفضح نفسك بعد أن سترك الله , ولا تستر عيبك بعد أن أظهره الله , بل قم على قدم الإنصاف معتذرا كما سيأتي
قال الناظم : ( عيبا بدا لكنّه استترا )

لتعلم أنّ عيوبك عند شيخك وأهل البصيرة ظاهرة , ولكنّهم ستروها بستر الله عليك , لأنّ غرضهم تربيتك لا فضيحتك , هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ولا يعذّب خديمهم , لذا قال : ( عيبا بدا ) فأبهم لمن بدا , لتعرف أنّ الناظم من شيوخ تربية المريدين , فكيف يعالجك شيخ لا يدري عيوبك أو لا يشاهد عليك آثار ذنوبك

مرّة كنت أفعل المعاصي كثيرا وكنت أقدم على شيخي رضي الله عنه متزيّنا حالة المنافقين بما تراه من حسن الملبس وفصاحة الكلام ودعوى التهذيب والإحتشام فلمّا لاحظ ذلك منّي كاشفني بعيب من عيوبي في ذلك المجلس من غير شعور لأحد من الحاضرين في ذلك المجلس إلاّ ما كان من دقيق بصيرة العارفين الذين لا تخفى عليهم الأشائر ولا المقاصد للضمائر , فقال وأنا أسمع : كان شخص من الناس يفعل كذا وكذا فلو كان معي لقلت له كذا وكذا ...

فقصدني بهذا الكلام فكاشفني بعيوب لا يعلمها منّي غير الله تعالى , ومرّة في شهر رمضان قلت له : ماذا فعل فيكم رمضان وكنت أقصد شدّة الحرّ , فأجابني : بل نحن ماذا فعلنا في رمضان , فسكتّ سكوت المسيء أدبه لما أنا فيه من حالة الذنوب والعيوب , فالحمد لله على نعمة مشائخ التربية وجازاهم الله خيرا

فالناظم هنا كأنّه يقول للمريد : يا هذا لا تعتقد غير عيبك الذي فيك نشاهده ومنك نشمّ فيك رائحته , فمن لم ير العيب فيه معتقدا فقد ادّعى الكمال هواجس تلك النفس الأمّارة بالسوء فما أجمل وما أحلى أن يكون الإنسان معتقدا لعيبه ملاحظا لذنبه , شعورا وإحساسا , ذوقا وصدقا , هنا يتبرأ من الدعاوي وما إلى هنالك من المخازي ...

قال الناظم رضي الله عنه :

( وحـط رأسك واستغفر بلا سبب ** ** وقف على قدم الإنصاف معتذرا )

حاصل طريق القوم الخلاص من ضنك عيش النفس , إلى الأنس في حضرة القدس , فيكون هذا بمتابعة الشريعة , والقصد بحسب مناهج الطريقة , حتّى تزفّ الروح إلى بحار الحقيقة , وعنوان هذا كلّه ما تراه مرسوما في هذه الأبيات من آداب , فهي خلاصة مركوب المريد إلى حضرة الأحباب

فبعد أن يعتقد المريد بعيبه , ويستشعر من نفسه كثرة كبريائه وغيّه , وما عليه حاله من البعد , وفؤاده من الدعوى والفقد , يتلوه شاهد منه , بما يراه في مرآته الذين هم إخوانه في الطريقة , وخلاّنه في مقامات الحقيقة , من السمت والأدب , والعمل وحال القرب , فإنّه حتما يحتشم خجلا , ويحطّ رأسه معترفا جزما , لما في حطّ الرأس من إعتراف واعتذار , وما فيه من الفناء عن وصف النفس مظنّة الأغيار , فلا يستشعر في مقام صحبتهم غير ذنوبه , ولا في مجالسهم غير جهله وعيوبه , فمن أتى إخوانه فارغا , رجع من عندهم عبدا واصلا , لما في سجيّتهم من الكرم , وفي طبائعهم من الوداد والنعم

فإنّ الفقير متى كان بهذا الوصف , أنصف واتّصف , فراعى إخوانه بعين التعظيم , وذكر أسماءهم بما يدلّ على التفخيم , وهذا كلّه تشهده في السيرة النبويّة , وتراه اليوم في خلاصة الفرقة الربّانية , فأمرنا الله تعالى أن لا نجعل دعاء الرسول بيننا كدعاء بعضنا بعضا قال تعالى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ) لأنّه سيّد أهل النسبة صلى الله عليه وآله وسلّم , وكذلك تعظيمنا لأهل بيته الكرام وصحابته الأعلام

حتّى غدا النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول لسيّدنا أبي بكر رضي الله عنه عندما قال قولا لبلال وصهيب رضي الله عنهما : ( إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربّك ) فذهب الصدّيق حاطّا رأسه معتذرا , وقائما بين أيديهما طالبا الصفح ملتمسا , فما حجبته منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن توفية حقوق أهل النسبة , فالمراتب لا شفاعة لها أمام توفية الآداب مع الإخوان , كحال إبليس لمّا أساء الأدب مع أهل النسبة آدم عليه السلام , فمتى استشعر المريد كثرة حقوق إخوانه عليه , اعترف بالذنب منصفا بين يديه , فحطّ رأسه في حضرتهم باكيا , ولسان حاله ينوح معترفا شاكيا :

فإن تطردوني كنت عبدا لعبدكم ..... وإن تصلوني كان قصدي رضاكم
فإن ترحموني كان منكم تقضّلا ..... على الله رب العالمين جزاكم

لذا أشار الناظم رضي الله عنه هنا أنّ حطّ الرأس في مجالس الإخوان ومحاضر الخلاّن , والإستغفار بلا سبب نتيجة إعتقاد المريد بعيب نفسه وكثرة إخلاله بحقوق إخوانه إذ أنّه شرّف بصحبتهم , وأكرم بخدمتهم , فتراه لذنوبه ذاكرا , ولعيوبه فاكرا , كي يتعوّد البحث عمّا يرضيهم عنه , فإنّه في حماهم يتنعّم , وفي مزاياهم يكرم , ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) , ولا يضام رفيقهم , فطوبى لمن أحبّهم , وسعد من خدمهم , فحمل عنهم كلّياتهم , بجميع إمكاناته , وبعد هذا يشاهد التقصير من نفسه , فيستغفر في سرّه معتقدا إنصافا , وخجلا روحا وأطرافا , فلله درّ الإخوان ما أحسن شيمتهم , وما أطيب طلعتهم , هم السلاطين والسادات والأمراء , فأنّى يا فقير أن تؤدّي جمائلهم , أو تردّ مكارمهم , أو توفّي حقوق محاسنهم :

أيا ساكنين الروح والقلب والحشا .....حاشاكم أن تقطعوني حاشاكم
وإن صاح صائح أو نادى بذكركم ..... فسمعي له صاغ يراعي نداكم


قال الناظم رضي الله عنه :
إن بدا منك عيب فاعتذر وأقم .......وجه اعتذارك عما فيك منك جرى

الشرح :

الفقير متى أحبّ إخوانه , وفنى في غرام خلاّنه , أقامهم مقام ذاته بما ينسبه إليهم معتقدا فيهم محاسن المحامد والشيم , وأقام نفسه مقام ذواتهم بما يراه في مرآته فيهم من كثرة عيوبه وذنوبه , وذلك فلأنّهم مرآته فلا يرى فيها غير عيبه وذنبه , وآثار كربه , فمتى كان مرآتهم فلا يرون فيه غير محاسنهم الجميلة , وأخلاقهم الحميدة , ومتى كانوا مرآته فلا يشهد فيهم غير عيوبه وذنوبه , هذا مقام المبتدئين من المريدين , والقاصدين من السائرين , وبما أنّ العيوب غالبا ما تكون كامنة , خافية عن النظر , مستترة عن أعين البشر , لكنّها قد تبدو من الفقير في كلّ وقت وحين في محضر الإخوان , أصفياء الجنان , لأنّ كثرة صفائهم مظهرة مهما استتر الكثير من العيوب , وما لا يمكنك حجبه من العيوب

لذا أشار الناظم رضي الله عنه بقوله : ( إن بدا منك عيب فاعتذر وأقم ) لأنّ العيب كامن وقد يبدو في بعض الأحيان , هذا متى استشعره الفقير بالجنان , فهو بين حالتين , وفي مرتبة بين مقامين : إعتقاد العيب , كما قال الناظم : ( ولا ترى العيب إلاّ فيك معتقدا ) والدرجة الثانية : الإعتراف والإعتذار من الذنب متى بدا من هذا العيب , لأنّ مصدر الذنوب , ما كمن في النفس من العيوب , فهو بين حالة دائمة من اعتقاد العيب وهو الأصل , وبين حالة غير دائمة وهي الإعتراف والإعتذار متى بدا ذنب من هذا العيب

فالأوّل يوجب حطّ الرأس ودوام الإستغفار , والثاني يستلزم القيام بوجه الإعتذار , حاله في ذلك في الشاهد كحاله مع ربّه لأنّهم أهل نسبته , وخواص أصفياء حضرته , لذا قال الناظم موضحا هذا : ( عمّا فيك منك جرى ) فالعيب ( فيك ) والذنب ( منك ) فهو بيت حالتين , حقيقة وشريعة , حقيقته إعتراف , وشريعته اعتذار , فالأوّل : لجام النفس في سريرتها وذلك باعتقاد العيب , والثاني : لجامها في ظاهريتها وذلك بالإعتذار والإعتراف , فهذا لدوام الإستغفار فيما بينك وبين ربّك , وهذا للإعتذار فيما بينك وبين عباده وخواص عبيده

قال الناظم رضي الله عنه :

وقـل عـبيدكموا أولى بصفحكموا ...........فـسامحوا وخـذوا بـالرفق يا فقرا

فقل أيها الفقير الصادق بلسان حالك مع خشوع مقالك , أن هذا عبيدكم الضعيف , البعيد الكفيف , الجاني بالتقصير على نفسه , البعيد عن حضرة قدسه , هو أولى الناس بصفحكم , فإنّه أكبرهم عيوبا , وأكثرهم ذنوبا , وفي قوله ( عبيدكم ) تصغير للعبد , حتّى لا يظنّ بنفسه أنّه يصلح لخدمتهم , فضلا عن مزايا صحبتهم , قال شيخنا اسماعيل رضي الله عنه ( لو كنت في عصر الجنيد ما ارتضوني أن أكون القائم على دوابهم ) فالفقير متى اعتقد بعيبه , واعترف بذنبه , فإنّه حتما يقوم بوجه الاعتذار , ولكن ليس كأي اعتذار , فهناك اعتذار المفارقة , واعتذار المواصلة , بما أنّ الفقير لا يحسن مفارقتهم , ولا يصبر على عدم مواصلتهم , فجعل نفسه كالعبد عند سيّده , فهو مملوك لهم , لا اختيار له إلاّ فيما يختارونه له , فهذا اعتذار العبد عن عدم توفية حقّ صاحب نعمته , لذا تراه لا يرقب فيهم غير رضاهم عنه , فيتملّق لهم بأسباب الرضا , ويمرّغ وجهه في تراب نعالهم , ولسان حاله يقول :

لقد أتيت الحمى بذل .... ضيفا نزيلا فاكرموني

وجئت عبدا لكم محبا.... فهل عساكم أن تقبلوني

أيا كرام العباد جودوا.... ذنوب قلبي قد اثقلوني

فلمّا كان قلبه من الرقّة بلغ أفواجا , ومن الصدق معهم ركب أهوالا وأمواجا , نادى لسان حاله , فأنطق مقاله , حيث لا صمت عند الاعتذار , ولا سكون عند التملّق والافتقار , قائلا : ( خذو بالرفق ) أيّها السادة , فإنّي ببطحاء جمالكم , وفي رحاب طيب خصالكم , أتعلّق بأذيالكم , وأتلثّم آثار نعالكم , فخذو ا بالرفق أن تقطعوني وصالكم , فلا صبر لي بعد أن تيّهني دلالكم , فمهما أذنبت في حقّكم , أو لست بعبدكم ؟ , بل عبد عبد لعبدكم , فخذو ني برفقكم , فلا طاقة لي على هجركم , لما في قلبي من مهج صفائكم , وفي فؤادي رسوم حنانكم , فحاشاكم أن تقطعوني مهما أذنبت , أو تفضحوني مهما زللت , أو لا تسامحوني مهما غفلت , فخذوني برفقكم كما أخذتم روحي وفؤادي بملاطفتكم , فسامحوني على ذنبي , وخذوني برفقكم على عيبي ...

قال الناظم رضي الله عنه :

هـم بـالتفضل أولى وهو شيمتهم ....... فـلا تـخف دركـا مـنهم ولا ضررا

متى كان الفقير في حالة دوام الإستغفار , والمبادرة كلّما أذنب إلى الإعتراف والإعتذار , وشهود العيب فيه ووصف الإفتقار , بدلالة حاله عليه , وشهادة أعذاره التي قدّمها بين يديه , لما بلغه من جَهْد في طلب الصفح منهم , و التماس العفو عندهم , فإنّ حاله هذا الذي بلغ من العيب نهايته , ومن كثرة الذنب غايته , لا يحسن أن يسعفه فيه أحد , حتّى جزم بالهلاك والبعد , وبالرجوع والفقد , أنشط الناظم رضي الله عنه هنا رجاءه , وحيّر مكامن أمله , فأخبره أنّ حاله هذا لا يصلح أن يجبره غير من إتّخذ من الخُلق الكريم وصفا , وشرب من بحار الشمائل والصفاء رشفا وغرفا , وليس ذاك إلاّ ساداته الفقراء , بقيّة أهله النجباء , فقال : ( هم بالتفضّل أولى وهو شيمتهم )

لأنّهم أولى الناس بالعفو والمسامحة والكرم , لتخلّقهم بأخلاق مولاهم وبأخلاق رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام , المقول فيه : ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) , فلو لا أن يكون من شيمتهم إلاّ محبّة الخير له لكفاه , فكيف وهم حملوا عنه ما آلمه وأحزنه , وما أقلقه وأهمّه

عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: " سل؟ ". فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: " أو غير ذلك" قلت: هو ذاك. قال: " فأعني على نفسك بكثرة السجود . فإنّه متى سألهم أعطوه , ومتى أعطوه أجزلوه , فكيف وهو على أبوابهم مقيم وجه الإعتذار , وقاصدا إليهم بالإعتراف والإفتقار , فحاشاهم أن يحرموه , أو لا يُرضوه فيمنعوه , بل ما أوصدوا لأحد بابا , ولا وضعوا بينهم وبينه إستكبارا أو علوّا أو حجابا , فإنّ من حسن سمتهم ما يجتذب القلوب , وفي بهائهم وحسنهم ما ينسيه جميع العيوب والكروب , فإنّهم الرحمات المهداة , والنسمات الفائحات , فأن يسأل أو يعتذر ممّن كان الخير شيمته , وكان الفضل صفته , فحاشى أن يعود خائبا , أو يرجع زاهدا فيهم راهبا , وقد قيل على لسانهم :

نحن قوم إذا أتانا محب ..... عاد من سكره به نشوانا

واذا جاء فارغا من سوانا..... عاد من فيض سرنا ملآنا

لذا قال الناظم رضي الله عنه : (فـلا تـخف دركـا مـنهم ولا ضررا ) فإنّهم أهل آمان لا تخف منهم دركا , وأهل حماية ونفع فلا تخف منهم ضررا , فهذه علامتهم , وتلك ميزتهم , فلذ بهم , وفز في رحابهم , فإنّهم أهل نسبة الله لا تخف أيّها المريد منهم دركا ولا ضررا , فهل عوّدوك إلاّ جمالا , أم أهدوك إلاّ دلالا , فلا لذّة تعادل لذّة صحبتهم , ولا شرف يوازي شرف خدمتهم , فهم عرائس الوجود , وبقية الجمال الموجود ... فلا تيأس منهم ومن فضلهم أيّها المريد , مهما قاطعوك , أو أظهروا أنّهم ما واصلوك , بل أنت بأعينهم , لا ينسون أفضال خدمتك , أو دواعي محبّتك , إذ عنوان طريقتهم الوفاء , ومنشور ولايتهم الصفاء , فلا تتّهمهم , أو تيأس فتغتابهم ...


قال الناظم رضي الله عنه :

(وبالتفتّي على الإخوان جد أبداً ..... حساً ومعنى وغض الطرف إن عثرا )

الفقير متى أحلّ إخوانه مشاعر ذاته في مقام الإيمان , وحمل عنهم كلّ إحتياجاتهم في مقام الاحسان , لأنّ غايته أو يكونوا مكمّلين , وأمنيته أن يضحوا سعداء متنعّمين , فلا يدّخر جهدا في سبيل مرضاتهم , أو يرى له عليهم فضلا عند خدمتهم , فلا جرم أنّه ينفق عليهم , من ماله , وحاله , إنفاق المحبّين الصادقين , وكرم الأحباب المقرّبين , عسى أن يقبلوه , فتراه يجود عليهم حسّا ومعنى , كما أنفقوا عليه قبولا وعفوا , فهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان , لذا قال الناظم : ( وبالتغنّي على الإخوان جد أبدا ) يحكي الناظم حاله , إذ أنّه من فرط محبّتهم أوصى بخدمتهم ودوام الإنفاق عليهم من غير حساب , أو سريرة بمنّ أو طلب غرض ثواب , بل يكفي من الثواب أن يسّر الله تعالى لك هذا السبيل من الإنفاق

فليس إلاّ إنفاق بحبّ , وجود بلبّ , وقد تواترت قصص عن الصحابة في ذلك , من حسن إنفاقهم على بعضهم البعض حسّا ومعنى . وما في قصص الأولياء خير شاهد على الإقتداء , فتلك شمائلهم , ومنارات طريقهم , فإنّ الغنى بالله تعالى من دلائل طريقهم , وبالجود منه والإنفاق والكرم علامات تحقيقهم , فليس في الطريق إلاّ خدمة بحبّ , وإنفاق بصدق لبّ , تتملّق محابهم , إذ أنّهم متعفّفين , مهما احتاجوا , ومتخفّين مهما إفتقروا قال تعالى : ( تعرفهم بسيماهم ) من حسن جمال فقرهم , وكثرة رضاهم , لا يسألونك شيئا فعوتبت فيهم , فكيف لو سألوك , أو إحتاجوا فما وجدوك , فلست أنت في هذه الحال من إخوانهم , ولا لك وصل بمحابهم , فإنّ من أخلاقهم الإيثار فقدّموك , ومن غريب أحوالهم الإستتار فما أحوجوك

كنّا مرّة مع شيخنا رضي الله عنه فجاء وقت طعام العشاء فتحلّقنا حلقتين على مائدتي الطعام فجلس شيخنا على المائدة التي بجانبنا مع بقيّة الفقراء كأحدنا يتناول معنا الطعام وكان خلال الطعام يذاكرنا فممّا حكى لنا حكاية أحد الفقراء من المشائخ أنّه قال : نحن متى جاءنا أحبابنا نطعمهم ظاهرا وباطنا ونحلّيهم ظاهرا وباطنا ...
فما أطيب أخلاق الإخوان , وما أحسن جمال الخلاّن , والذي يتمعّن في هذه القصيدة يرى صدق المؤلّف ومحبّته لإخوانه , كيف لا وهو الشيخ المربّي والوارث المحمّدي , وعلى ذلك المنوال تسابق الإخوان إلى تخميسها كما فعل الشيخ الأكبر التي أخذته هذه القصيدة مأخذا جميلا , وحالا كبيرا , وكذلك في شرح الكثير لها كشرح سيدي إبن عطاء الله السكندري رضي الله عنه , وإلى الآن هذه القصيدة تنشد في مجالس كبار الأشياخ لما فيها من خمرة صوفية , ومحاسن تربوية ربانية

لذا قال الناظم : ( وغض الطرف إن عثرا )

يشير رضي الله عنه أنّ من الإنفاق على أحد إخوانك أن تغضّ طرفك عن عثرته , وتقيل هفوته , فإنّك لا تطيق أن ترى على أحد من إخوانك عيوبا فتضحى تسترها , أو فقرا أو إحتياجا أو كروبا فتمسي تجبرها , لما في قلبك من الحبّ لهم , والصدق معهم , والهيام بهم , فإنّ هذا باب الوصول , وعصاك التي تدقّ بها باب القبول , ( ولي فيها مآرب أخرى ) جميلة , ومحاسن لطيفة , وما أحسن قول النبيّ عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي : ( حقّت محبّتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ ) وقوله : ( إثنان تحابّا في الله إجتمعا عليه وافترقا عليه )


قال الناظم رضي الله عنه :

( وراقب الشيخ في أحواله فعسى ----- يـرى عـليك مـن استحسانه أثرا )

بعد أن استوفى الناظم ذكر مقدّمة الآداب الأصلية الواجبة في حقّ الإخوان , إذ أنّها بداية سلوك طريق الإحسان , التي يجمعها قول الله تعالى في القرآن , قال تعالى : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) إلى غير ذلك من الآيات التي تذكر آداب المؤمنين مع بعضهم البعض , فإنّ أخلاق أهل التصوّف هي أخلاق الإسلام الحقيقي , ودين الله التطبيقي , مجال القلوب , حيث تستنير محاسن المحبوب

وقد ورد كذلك في الأحاديث من الوصايا والتنبيه على هذه الآداب والأخلاق , ما لا يخفى على طالب الله تعالى شرعا وتحقيقا بالأذواق , فمنها قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه ) وقوله عليه الصلاة والسلام : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) وقوله عليه الصلاة والسلام : (لَا تَحَاسَدُوا ولا تَنَاجَشُوا ولا تَبَاغَضُوا ولا تَدَابَرُوا ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ على بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ ولا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى ها هنا -وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ )

فهل معاني التصوّف وأخلاقه وآدابه إلاّ صريح الإسلام ولكن لمّا أقبل أهل الدنيا على دنياهم , فتركوا الدين أقبل أهل التصوّف على التطبيق العملي لأخلاق الإسلام فيما بينهم , لذا قال المؤرّخ ابن خلدون ( فاختصّ خواص أهل السنّة باسم الصوفية ) فسمّاهم خواص أهل السنّة أي أتباع سنّة الحبيب الحقيقيّة , لذاك قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ( التصوّف فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة ) لأنّ تطبيق تلك الأخلاق والآداب الإسلامية عمليّا لا يمكن أن تتمّ على أحسن وجوهها إلاّ بحسب طريقة منهاج أهل التصوّف الذين ورثوا علوم التربية النبويّة لذا سمّوا منهاجهم ( بالطريقة ) أي طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام في التربية التي هي تزكية النفوس , لذا اشترطوا وجود الشيخ المربّي في طريق الله تعالى فإنّ الله تعالى أسند إليه وظيفة تربية المريدين , لذا قالوا الشيخ بين مريديه كالنبيّ مع قومه ...

من هنا بدأ الناظم رضي الله عنه في ذكر علاقة المريد بشيخه , آدابا وأخلاقا التي ذكرها العلماء في كتبهم بعد أن أخذوا أصولها من الكتاب والسنّة , فلله درّ القوم في علومهم , وفي فهومهم , فليس إلاّ هم ( صراط الذين أنعمت عليهم , غير المغضوب عليهم ولا الضالين )

لفقير متّى أحبّ إخوانه , وتأدّب مع خلاّنه , فحتما أنّ هذا يعود عليه بالنفع في آجله وأوانه , فيكون هذا كالباب , لفهم مجمل الآداب , في الأقوال والأحوال , الناظم رضي الله عنه بما أنّه في التربية من شيوخها , غارف من معارف بحورها , فحرصا على المريدين , وفناء في محبّة إخوانه الأمراء السلاطين , فإنّه ألّف هذه القصيدة بلسانه دليلا , على ما اتّصف به فيها وصفا وحالا , فلله درّه ما أشدّ عنايته , وما أكثر محبّته

فسال قلبه صدقا , وروحه عشقا , كيف لا وهو الذي ألّف تلك القصيدة في ذاته لنفسه , فأخبرك مقاله , بعد أن دلّك حاله , فكانت تلك الأحوال كتاب الروح والقلب فهما وعلما , وذخرا ليوم القيامة وحكما , فإنّ صفاء هذا الناظم رضي الله عنه قد بلغ من الصدق ما تسير بذكره الركبان , وما يشرق به نوره في مختلف الزمن والمكان , فدلّك أيّها الفقير على منارات الطريق , وعلامات التحقيق , خلاصة الآداب , حيث أشار لك إلى خلاصة معدن طريق الأحباب , فلله درّه , قدّس الله سرّه , ونفع به في قربه


قال الناظم رضي الله عنه : ( وراقب الشيخ في أحواله )

غاية طلب الشيخ منك أن تراقبه في أحواله , فهي كتاب تربيته إليك , وقوله الصادق فيما بين يديك , إذ أنّ الحال أبلغ في التربية من المقال , فهل صدّق القلب شيء غير ما تراه من الأحوال والأعمال , قال عليه الصلاة والسلام : ( صلّوا كما رأيتموني أصلّي ) كي يعرج بهم في عين المقام , يا من لا يفهم غاية أحوال السادة الكرام , إذ أنّ أمر السلوك متوقّف على الصحبة , وجواده الذي تسير به فيه أصله الخدمة , وقد قيل : ( ما أفلح من أفلح إلاّ بصحبة من أفلح ) إذ أنّ في الصحبة مشاهدة الحال , والثبات على كمال الإيمان , قال أحد الصحابة بعد إنتقال النبيّ عليه الصلاة والسلام ( ما نفضنا التراب من أيدينا حتّى أنكرنا قلوبنا ) فوجد الحال غير الحال , والأرض غير الأرض , بل والسماء غير السماء

وقال صحابي آخر ( يا رسول الله عندما نكون عندك وتحدّثنا عن الجنّة والنّار فكأنّا نراها رأي عين ...) لما في الصحبة من إكتساب أخلاق وإيمان , وفي المشافهة من تحقيق مشاهدة وعيان , لتعلم ما في القرب من محاسن , وفي الصحبة من مناقب , قيل فيهم ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فالمجالسة لا تكون إلاّ عن قرب , وهي مجالسة القلب للقلب , والروح للروح , والجسد للجسد

فلمّا كان الشيخ الكامل في طريق الله وارث النبيّ عليه الصلاة والسلام في أحواله وأقواله وأفعاله كان نائبا في أمّته , خليفة في أهل نسبته , فحتما تقتدي به في جميع أعماله , بعد أن يسري فيك من كثرة مراقبته الكثير من أحواله , فإنّ غايته أن تصبح مثله , وصفا , روحا وقلبا , لذا تراه يراك من طرف خفيّ , يربّيك , فهو لك مراقبا , ولأحوالك مشاهدا , ( عسى يرى عليك من إستحسانه أثرا ) من أحواله , التي هي من أحوال النبيّ عليه الصلاة والسلام , فهو الذي أوصلها إليك , وقدّمها هديّة بين يديك , فإنّ شيخك لا يفرحه شيء أكثر ممّا يراه عليك من شمائل محاسنه , التي أضحت من محاسنك , فأنت أيّها الفقير أثر من الشيخ يدلّ عليه , وهو أثر من رسول الله يدلّ عليه , ورسول الله أثر من الله يدلّ عليه , فهذا معنى السلسلة والسند

كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يراقبون رسول الله عليه الصلاة والسلام في جميع أحواله , في نومه , في قعوده , في جلوسه , في أكله وشربه , في ضحكه ومزحه , في جهاده وعدله , في عمله وقوله , في لباسه وزينته , في مشيه , يفعلون ذلك كي يكونون على نفس خطاه , إذ أنّه العبد الإلهي الكامل , والسيّد القدسي , عليه الصلاة والسلام , فلمّا إنتقل رسول الله عليه الصلاة والسلام ما ترك أمّته هملا , بل ترك فيهم ورّاثه , الذين لا يدلّون إلاّ على الله تعالى , ولكن بحسب شرع طريقته عليه الصلاة والسلام

فراقب الشيخ في أحواله فعسى يرى عليك أيّها الفقير من أحواله عليك أثرا فيستحسنها , إذ أنّ العارفين يتنافسون فيمن يدخل الحضرة أكثر من الآخر , ومن يهدي الله على أيديه أكثر الناس و العوام والعلماء , محبّة لله في الله , وراثة نبويّة إذ كان فرحه عليه الصلاة والسلام بكثرة سواد أمّته لا يخفى لمّا رأى ذلك ليلة أسري به , فمن هذا كان الشيوخ يتنافسون ( يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ) ولئن يهدي الله بك رجلا واحد خير لك من حمر النعم

( فعسى أن يرى عليك من إستحسانه أثرا ) قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ( كتبي أصحابي ) لمّا طلبوا منه التأليف , فذكر أنّ حاله يسري قلبا وروحا , نهاية التعريف , فلا تصحيف أو تحريف , فلله درّهم , ما أعظم فضلهم , وما أحسن ما أنشد شيخنا إسماعيل رضي الله عنه في قصيدته الغرّاء :

إمامي و ذخري عند كل ملمة ---- و عدتي في الدنيا و يوم القيامة
رجوتك في الدارين حفظي و إنني ---- بكم أحتمي لما بدا نقص طاعتي
و عندي من الأشواق ما لم أبح به ---- و أنت طبيبي عالما بالخفية
و أنت الذي تعلي لذي الشأن شأنه---- و ترفع من شأن الوضيع بنظرة
و أنت الذي تدني ولا فخر من أتى ---- لبابك يرجو منك خير عطية

قال الناظم رضي الله عنه :


( وقَــدِّمِ الـجِدِّ وانـهض عـند خـدمته ** ** عساه يرضى وحاذر أن تكن ضجرا )

خدمة الشيخ عنوان اصطفاء الفقير , ودليل المحبّة الغالبة واجتبائه في المسير , إذ أنّ الخدمة تفيدك بداية القرب منه ودوام مواصلته , والمكوث دائما على أبواب محاسن حضرته , فلو لم يكن لك منها إلاّ دوام مراقبته , والتمتّع بلذّة رؤيته , لكفاك , فكيف متى علمت شرف الخدمة وبهائها , وحسن فضلها وغلائها , إذ أنّ خدمة الشيوخ لها من الإصطفاء والإجتباء ما لا يناله إلاّ الأخيار , ولا يفوز به غير المصطفين الأطهار : (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فهي أمانة أيّها الفقير إستودعكها الله تعالى , أن تضيّعها فتخونها

فإنّ نصرة الشيوخ العارفين لا تكون إلاّ بتقديم الجدّ عند خدمتهم , والنهوض إليها مسرعا لازم محبّتهم , فهي من آكد شروط الإنتساب , وعنوان الغرام ونصرة أولائك الأحباب , مع ما فيها من التربية واكتساب الآداب والشمائل , وما يفوز به الفقير من القرب إلى ما لا يكيّف من الفضائل , وإنّما أشار لك الناظم رضي الله عنه إلى تقديم الجدّ , فلما عليه حال الشيخ معك في حياتك من حسن الرعاية والإعتناء , وما يحبّه لك ويعمل عليه بعد إنتقالك إلى عالم البقاء , وفي هذا المعنى قال شيخنا إسماعيل رضي الله عنه


رجوتك في الدارين حفظي وإنّني ---- بكم أحتمي لمّا بدا نقص طاعتي


وإن في باب الخدمة ما ورد عن الصحابة لأبلغ مثال لنا حتّى نخدم أولياء الله تعالى من الوارثين والدعاة إلى الدين , ففي خدمتهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام , ما سارت به شمس الأنام , و ناحت به على الأيكِ الحمائم , فإنّهم أعجوبة زمانهم , صدقا وتصديقا , ومحبّة , وشوقا وتوفيقا , فما بقي لنا غير رشحات من تلك الخدمة , نستوفيها في بقية خلفاء النبوّة , الوارثين النجباء من أهل الفتوّة :


وفي هذا الصدد أنقل شاهد من شواهد تلك الخدمة الصادقة الجميلة , التي أصلها الجدّ والنهوض والمودّة , مقتضيات الصدق والمحبّة , حكاها لنا من سيرته الذاتية , ومعاملته الصدّيقية , وليّ الله , والعارف بالله سيدي أحمد بن عجيبة الحسني رضي الله عنه صاحب كتاب ( إيقاظ الهمم في شرح الحكم ) في كتابه الأعجوبة ( الفهرسة )


قال رضي الله عنه :


((( اعلم أنّ خدمة المشائخ وصحبتهم هي سبب الظفر بالسر الأكبر وما نال أحد مرتبة من مراتب الولاية إلاّ بالصحبة والخدمة ...

قال سيدي عبد الوارث رضي الله عنه :

خدمة الرجال --- سبب الوصال

لمولى الموالي --- لا إله إلا الله

وأنظر قضية التباع والغزواني . وسيدي عبد الكريم الوزاني وغيرهم من الأولياء الصالحين ما نالوا مرتبة الولاية وكمال الصلاح إلا بخدمة مشائخهم وكذلك حال شيخنا رضي الله عنه بقي خادما على باب شيخه ستّة عشر عاما أو نحوها , وكذلك شيخه قال رضي الله عنه : بقيت في صحبة شيخي سيدي علي رضي الله عنه بفاس سبع سنين ورحلت إلى بني زروال فبقيت نتردّد إلى زيارته سبع سنين كان يقدم عليه مرتين في السنة فيقدم عليه في الزيارة ببقرتين للخليع وحملين من الزبيب وحمل البلوط

وأمّا أنا عبد الله فلم تمكن لي الإقامة معه للقيام بالعيال وسياسة الفقراء فكنت نتردّد إليه في الزيارة لبني زروال فنقيم معه ما شاء الله ثمّ يرسلنا فكان يقول لنا : تردّدكم إلينا في الزيارة متعطّشين أنفع لكم من الإقامة معنا ولمّا رحل لزاويته بغمارة جعلت أتردّد إليه هناك وأقيم معه أيّاما نتفنّن في العلوم اللدنية والأسرار الربانية, فأنا الذي بنيت غرفته التي يسكن فيها والكتينة والحمام , وذلك لمّا زرت معه مولاي عبد السلام رضي الله عنه مع جماعة من الفقراء ونظر إليّ وقال : نحبّك أنت والحاج أحمد البسيري تبنون لي الدار بغمارة فلمّا قدمنا من الزيارة قال الحاج أحمد : أنا ما نقدر على شيء . فذهبت أنا بأربعة من المعلمين اثنين يبنيان واثنين يصنعان القرمود فأسسنا الذار وبنينا المدخل والأروى وفوقهما الغرفة التي التي يسكنها الشيخ ثمّ بنينا بيت النار والحمام فبقي الصناع هناك نحو الشهر فناب البناء من الأجرة ست وثلاثون مثقالا والأخيرين أربع وعشرون مثقالا وكنت دفعت في قطع الخشب تسع مثاقيل فناب الجميع تسع وستّون مثقالا و فبعت بعض كتبي وتسلّفت الباقي فخلص الله الجميع ...

ثمّ خطب له ابن عمه سيدي محمد بن علي بوزيد من الشريف الرحموتي فجهزنا له أنا وأخي بمائة وأربعين مثقالا وصحفة من القمح وثور وما يقيم ذلك فلمّا قدمنا بها وأردنا الإنصراف , رفع يديه مع من حضر من الفقراء فقال : بارك الله فيكم وفي ذرّيتكم وأولاد أولادكم ومن تعلّق بكم إلى يوم القيامة
وكنت سمعت هاتفا حين كنا نشتري له الكسوة يقول : اصبروا فدعوة منه تخدم عليكم وعلى أولادكم , فكانت تلك الدعوة التي ذكرنا

ثمّ بنينا العين في دار شيخه ( سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ) فدفعت خمسة مثاقيل للشيخ دفعهما للمعلم , ثمّ بنينا المسجد الذي ببني زروال أنا وأخي , خدمنا فيه بأنفسنا وأموالنا وجملنا الخشب من غمارة على عواتق إخواننا , ثمّ بنينا ضريح سيدي يوسف الدرقاوي فنال الفقراء من ذلك مشقّة عظيمة وذلك سبب ربحهم وراحتهم , ثمّ لم يزل يرسل لي وإلى أخي في حوائجه ومارب داره فنقوم بها بحول الله وقوّته فجلّ زاويته قائم بنا والحمد لله .

هذا في عالم الحكمة وأمّا في عالم القدرة فما ثمّ إلاّ الله الحي القيوم فلا شيء معه أصلا فهو الذي يقوم بأمر عباده وخصوصا أمر أوليائه , لكن الأمر كما قال في الحكم : إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق فيك ونسب إليك وبالله التوفيق ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم . ))) انتهى النقل من كتاب " الفهرسة "

قال الناظم رضي الله عنه :

( فـفي رضـاه رضـا الـباري وطـاعته ** ** يـرضى عـليك فـكن مـن تركه حذرا )

متى قدّمت الجدّ عند شيخك في دوام خدمته , ونهضت إليها مسرعا فرحا بشرف صحبته , عنوان صدقك في محبّته , إذ أنّك مطالب بنصرته , وحمل ما يكون من مشقّته , فحتما فإنّ هذا يسعده ويفرحه , قال سيدي محمّد المداني رضي الله عنه لسيّدنا الشيخ إسماعيل رضي الله عنه : ( وما زلت أكرر لكم كلمة مولانا الإمام سيدنا أحمد العلاوي وهي قوله : " والله إنّي لا أفرح بالهدية ولكني أفرح بمهديها لما أرى عليه من شعائر الإنتساب " ) , فإنّ الشيخ متى رأى عليك لوائح شعائر الإنتساب , من حسن الخدمة , ودوام المودّة , والإعتناء بالإخوة , فإنّ ذلك يدخل على قلبه من الرضا ما يثلج الله به فؤادك , ويوفّق لك طريقه لإسعادك , إذ أنّ رضا الأولياء من رضا الله تعالى ورسوله عنك

لذا قال الناظم رضي الله عنه : ( ففي رضاه رضا الباري وطاعته ) قال تعالى لسيّد الوجود صلى الله عليه وسلّم : ( ولسوف يعطيك ربّك فترضى ) لما في رضا أهل النسبة من رضا الله تعالى , فكأنّه يقول له : ( ولسوف أعطيك يا محمّد حتّى أرضى أنا قبل أن ترضى أنت ) ورضا الله تعالى هو نهاية العطاء ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) فكلّ خدمة أو محبّة أو هديّة ترضي شيخك عنك , فهي من رضا الله تعالى عنك , إذ أنّ الشيخ من خواص أهل نسبته , فهو والدك الروحي , المقدّم على الأب الترابي , فأنت تعلم ضرورة أنّه ما رضا الله إلاّ برضا الوالدين , فمتى رضوا رضي الله عنك , ومتى سخطوا سخط الله عنك , وفي هذا قصص كثيرة في الآيات والأحاديث , وفي سير الصالحين والصالحات , فكيف إذن بالأب الروحي الذي أمرك الله تعالى بطاعته في قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واؤلي الأمر منكم ) لذا قال الناظم رضي الله عنه : ( يرضى عليك فكن من تركه حذرا ) مخافة أن يسخط الله تعالى بسخطه وهو الذي يقول : ( من آذى لي وليّا فقد آذنته بحرب ) قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :

ما صحبة الشيخ إلاّ صحبة الله ----فقم بها لله أدبا مع الله

فمن أعظم أسباب رضا الشيوخ عن مريديهم , إلتزام آدابهم , وحفظ حرمتهم , وكثرة محبّتهم , التي هي عنوان كلّ فهم , والسلامة من كلّ إثم , فإنّ الله تعالى أمرك بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام , ومن ثمّ بالوارثة طاعة أولي الأمر من أهل الدين , من المشائخ العارفين , فإنّ الرضا تثمره الطاعة , والطاعة لا تكون من غير محبّة , لأنّ المحبّة تنتج جمال الطاعة , فتطيع بجميع ذرّات وجودك , ( إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ) لذا قال ساداتنا رضي الله عنهم : ( إلتمسوا محبّة الله ورسوله في محبّة الأولياء والصالحين ) وقالوا : ( متى ألف القلب الإعراض عن الله صحبته الوقيعة في أولياء الله ) فكلّما جدّ بك النشاط في طلب نسائم الحضرة , إعتنى بك الشيوخ فعلّموك مناهج الخدمة , وطرائق الأدب , كي يطهّروك , ومن ثمّ يزيّنوك , حتّى يزفّوك

فكلّ ما نبّه عليه الناظم رضي الله عنه نبّه عليه كي يوصلك إلى معرفة آداب الوصول , ويسرع بك إلى طريق القبول , فتزفّ إلى فيافي الفحول , قال سيدي محمّد المداني رضي الله عنه في قصيد له في حقّ شيخه العلاوي رضي الله عنه :

جزاك مولى الفضل بالذي جزى---- إمام عن أمّته إذ تممّا

وعبدك المداني يرجو كلمة ---- تحوي رضاك كي يرتاح ناعما

قل لي رضيت يا إمام واشرحن---- مضيق صدري قبل أن ينهدما

فزت وربّ الكعبة لو شاهدتكم ---- عليّ راض وفي وجهي باسما

قال الناظم رضي الله عنه :

واعـلم بـأن طـريق الـقوم دارسـة ** ** وحال من يدعيها اليوم كيف ترى

من علامات النجاح في سلوك الطريق , ودلالة الوصول إلى نوال الذواق من موائد التحقيق , والسكر والهيام من شراب زمزم مختوم الرحيق , الغيرة على تلك الطريقة من أن يدّعيها غير أهلها , أو تعرف فتشتهر على غير أصلها , أو تنسب فتنزل على غير أرضها , نبّه الناظم رضي الله عنه أنّها طريقة لا ينادى عليها بلسان الإشتهار , ولا بدعاوى الوصول والإظهار , فإنّ من علامات ذهابها دعوى نوالها رشفا وغرفا , ومن دلائل فقدها ترديد صدى ورودها بقرا وغرقا , فكلّما نودي عليها بلسان الإشتهار , فهي علامة من علامات الرجوع لها والإندثار

قال الناظم رضي الله عنه : ( واعلم بأنّ طريق القوم دارسة ) لما رآه في يوم زمانه من حال من يدّعيها , إذ لا بدّ عند الدعوى من وجود برهان , ومن الكلام عليها دليل من صفاء وجدان , وهكذا هم أهل الله في مختلف زمان وجودهم بداية من الجنيد إلى القشيري إلى الناظم رضي الله عنهم وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها حملتهم غيرتهم إثبات أنّ طريق القوم دارسة كما قيل :

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم ----- وأرى نساء الحيّ غير نسائها

كما قال الناظم رضي الله عنه ( وحال من يدّعيها اليوم كيف ترى )

فشكى الناظم حال أهل زمانه , غيرة منه على الطريقة أن يدّعيها من ليس من أهلها كما شكى ذلك الإمام القشيري في صدر رسالته والإمام الشعراني وجميع أهل الله تعالى رضي الله عنهم وأرضاهم

قال الناظم رضي الله عنه :


متى أراهم وأنّى لي برؤيتهم ---- أو تسمع الأذن منّي عنهم خبرا


بعد أن شكى الناظم في البيت السابق كثرة دعاة الحقيقة , وما عليه المدّعون في زمانه لفنّ الطريقة , أشار أنّ من عناوين الطريقة خفاءها , وأنّ جوهرها بذل الغالي والنفيس في سبيل نوالها , فمن شدّة الظهور الخفاء , لذا استبعد من نفسه أن يمنَح منهم وقتا لرؤيتهم , أو يصلح يوما منهم لكرم صحبتهم , أو يسعف لحظة من عمره بشرف خدمتهم , فكان الناظم رضي الله عنه يخبر عن نفسه لنفسه لعزّة الطريقة , وغلاء مهر أهل الحقيقة , وهكذا هم أهل الله يسألون وهم عن أنفسهم ينطقون , ويرجون وهم عين الرجاء المجيبون , ويحبّون وهم المطلوبون المحبوبون

فمن نال الطريق خفي من حيث ظهر , ونادى من حيث استتر , لرقّة معنى كأسها , وهيمان أفئدة جلاّسها , فليس إلاّ طيف هيامها , ومدامة عشقها وغرامها , فمتى يراهم بعد أن علم أن وقت رؤيتهم تباع فيه الأكوان , وتشترى عندها الكيسان والكيزان , ( سيماهم في وجوههم ) وأنّى يراهم لوجود حجاب دلالهم , إذ هناك تكحّل العين , حيث يذهب القبح والشين , فأنّى يرقى لهذا المرتقى , حيث يرى فيهم عين المنتهى , وفي هذا قيل في حقّ أبي يزيد رضي الله عنهم لأحدهم بلغه أنّه يرى الله تعالى بعين بصيرته ( لو ترى أبا يزيد مرّة خير لك من الأخرى مائة مرّة ) إذ في طلعتهم طلعة نور مولاهم , فمن سناه نور سناهم , وقد ورد في قول الصدّيق لسيّد الوجود ( النظر إليك والجلوس بين يديك وانفاق جميع مالي عليك ) وفي هذا أنشد الهيمان المعنّى :

متى يا كرام الحيّ عيني تراكم --- واسمع من تلك الديار نداكُمُ

فلمّا تيّمته المحبةّ والغرام , وجذبه السكر بهم من فرط الهيام , قال : لا محالة ليست لي حيلة فإن منعتموني رؤيتكم , فلا تحرموني طرب همستكم , وأنا الفقير لنظرتكم , فإنّي لا أنشد من الأنباء غير ترقّب أخباركم , ولا من الأماني غير رفدكم وإحسانكم , فليس لي حيلة غير تلثّم آثاركم , والبحث دوما عمّن رآكم أو رأى من رآكم , فإنّ عيني لا تقرّ إلاّ بكم , ولا قلبي إلاّ بسماع خطابكم

أمـر على الأبواب من غير حاجة ---- لعلي أراكـم أو أرى من يراكـم
حلفت يميناً لست أسـلو هواكـم ---- وقلبـي حزيـن مغـرم بهواكـم

فما أحسن سمتهم , وأجمل حسنهم , وأبهى طلعتهم , قال الناظم رضي الله عنه ( متى أراهم وأنى لي برؤيتهم ) فمتى أراهم وأنا البائس الفقير , وأنّى لي برؤية الضرير للبصير , ( أو تسمع الأذن منّي عنهم خبرا ) كما قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه :

الواو الواو سافروا لحباب مشاو --- رحلو وارقاوْ للبساط المعناوي

قال الناظم رضي الله عنه :

( من لي وأنّى لمثلي أن يزاحمهم --- على موارد لم ألف بها كدرا )

لمّا كان شأن الفقراء بلغ من الإحسان شأوا عاليا , وترقّت معانيهم إلى قاب قوسين أو أدنى حالا قائما , حتّى قال جبريل الأمين : أمّا أنا لو تقدّمت خطوة لاحترقت , كلّ هذا تعظيما لشأنهم لمّا بلغوا من المراتب مكانا عليّا , وتبوّؤوا من المراقي لسان صدق جليّا , أظهر الناظم رتبتهم بما يحسّه ويشعر به بتلاوة شاهد منه من علوّ المقام , وعزّة من يدرك ذلك من أهل المدام , فأبان مستواهم بما يراه من بعده عنهم لفنائه في محبّتهم , وغرامه بهم من كثرة مودّته , وهكذا حال كلّ فقير أصيل , تجده لنفسه محتقرا , ولشأن إخوانه معظّما مبجّلا . أفنى ذاته في خدمتهم , وصرف أمواله ودثاره في صحبتهم

ثمّ بعد هذا لا يرى من نفسه حظّا لمجالستهم , ولا نصيبا لمزاحمتهم , فيكون على أعتابهم منتظرا , ولآثارهم ملتمسا , ولطيب نعالهم ملتثما , استغرقته المحاسن منهم حتّى أوردته قهرا محاضرهم , إذ هم القوم لا يشقى جليسهم , ولا يضام أنيسهم , فلا يرد منهم كدرا , لألفة محابهم , وطيب قلوبهم عنوان آدابهم , أتزاحمهم وهم الذين قرّبوك , أم كيف تأخّرهم وهم الذين قدّموك , أم كيف تعلّمهم وهم الذين أفهموك , أم كيف تتقدّمهم وهم الذين حملوك , فطب بهؤلاء القوم طيبا , وشدّ إليك بجذعهم تساقط عليك من علياء ثمارهم رطبا جنيّا , فكل وقرّ عينا فأنت في حضرتهم , فهلاّ عوّدوك غير محاسن جمالهم , أو أرضعوك غير لبن خصالهم , ولسان حالك يقول :

هيّا بنا هيّا بنا إلى رياض الصالحين --- هيّا بنا هيّا بنا نسقى من خمر العارفين


قال الناظم رضي الله عنه :

أحــبـهـم وأداريــهــم وأوثــرهــم *** بـمـهجتي وخـصوصا مـنهم نـفرا


لمّا استوفى الناظم البصير ذكر شروط الآداب , ثمّ ألحقها حرصا بما ينفع ويشترط على المريد في سيره إلى حضرة الأحباب , صرّح بما يختلج في وجدانه من عظيم محبّتهم , وباح هياما من صدق مودّتهم , إذ أنّ محبّتهم سلسبيل زمزم القلب , ومودّتهم مشكاة عين الفؤاد والجذب , لما في المحبّة من بصر الإحسان , وما في المودّة من نظر التبجيل والإمتنان , فقدّم محبّته إذ هي الأصل , ثمّ أتبعها بما يقرّبه إليهم حتّى لا يُقطع بهم الوصل , دليل محبّته , وعنوان مودّته , إذ عين المحبّة كليلة عن وصف العيوب , ساترة لما قد يكون من الذنوب , كما قيل :

وعين الرضا عن كلّ ذنب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا

فلمّا تأصّلت محبّته حتّى أورقت أشجارها , وأينعت في السماء كالشمس ثمارها , داراهم تحت نعيم ظلالها , وآثارهم بألذّ ألوان غلالها , وتلك غاية ميل المهج , حيث يفوح طيب الأريج , وتستظلّ إليها وفود الحجيج , فليس بعد دفع المهج من إيثار , كما آثر أبو الحسن النوري رضي الله عنه أصحابه عند السيّاف بساعة من نهار , ولمّا كان في الأقوام من الفقراء الحبيب والأحبّ , والقريب والأقرب , إختصّ الناظم رضي الله عنه النفر وهم البضعة من الإخوان بشفوف المحاب , إذ يصفو بحسب أرواحهم معهم الزمان , حتّى تعانق الأرواح بعضها بعضا , فتتناثر المحاب كالزبرجد والياقوت خضرا وبيضا , نهاية الصفاء , وقمّة الوفاء , ( إخوانا على سرر متقابلين ) ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر )

قال الناظم رضي الله عنه :

قومٌ كرامُ السَّجايَا حَيثمَا جَلسُوا *** يبقى المكانُ على آثارِهِم عَطِرا

لمّا كانت أخلاق الخلاّن تسقى من زمزم سلسبيل الإحسان , وكانت أنفاسهم نفحات من مدد رياض الرحمان , تلطّفت معانيهم حتى أصبحت أنوارهم ذاتية , وتقدّست أسرارهم حتى أضحت من التقديس حللا جمالية , ومن النقاء أخبارا سماوية , أنشد الناظم رضي الله عنه على حياض محاسنهم أوصافا وجمالا , وذكر من بركاتهم عناوين وأحوالا , فحكى من كرم سجاياهم أخبارا , ومن طيب مجالسهم روى أنوارا وآثارا , إذ بهم يسعد الجليس ويطيب المكان , ومن نور محيّاهم يستنير الوافد والزمان , وأنشدوا :

ضاع في آثارهم قلبي فلا """ معهم قلبي ولا قلبي معي

هذا كي تعلم أيّها المعنّى ما في خصالهم من عزيز بركات , وما في مصاحبتهم من ندارة نفحات , فحيثما جلسوا يبقى المكان على آثارهم عطرا , والعصر بهم زاهيا فخرا , إذ أنّ مجالسهم رياض جنان , وآثارهم بركات زمان , إذ من علامتهم وجود آثار بركاتهم , ومن صدقهم وصفائهم تستشعر نفحات وصلاتهم , فحاشا أن يقطعوك إذ أنّهم موصولون , أو ينسوك فكيف وهم ذاكرون , فطب بهم كرما أن تبخل وصالهم , أو تغفل فتنسى خيالهم ...

يهـدي التصوف من أخلاقهم طرفـــا ** ** ** حسـن التألف منهم راقني نظـــــرا

لمّا كانت الأخلاق النبويّة تاج على رؤوس العارفين في رياض الإحسان , بعد أن قاموا تهذيبا للنفس بالصحبة والخدمة مناط فقه الإيمان , حكى الناظم رضي الله عنه مدارسهم , وأوضح مناهجهم , وأنّهم على طريقة أهل التصوّف قد درجوا , ومن مجالسهم تخرّجوا , فأهدوا للعالمين من الأخلاق ما غاب عنهم من جمال الملكوت , فطاب بذكرهم الزمان , و تعطّر بهم الساكن والمكان

قال الناظم رضي الله عنه :

( يهدي التصوّف من أخلاقهم طرفا )

إذ لا تشترى أخلاقهم حتى يهدوكها بمال , أو بدفع مهر تغمرك أمواج الجمال , قال تعالى ( وإنّك لعلى خلق عظيم ) بما تبثّه من تلك الأخلاق , حيث تنوح الأحداق بالأشواق , ويثار هناك عراك السباق , سعيا وطلبا , وإسعافا وأملا

فلمّا تخرّج أؤلائك النخبة على يد الناظم رضي الله عنه حكى حاله رضي الله عنه فيهم , بعد أن جاد عليهم بسرّه , وكشف فيهم عن أمره , فما راعه غير ذكر محاسنهم التي هي من محاسنه , فشاهد ما قرّت به عينه , نهاية الصفاء , وغاية أخلاق النجباء ( حسن التآلف منهم راقني نظرا ) رضي الله عنه وعنهمُ

قال الناظم رضي الله عنه

( هم أهل ودي وأحبابي الذين همــــوا *** ممـــن يجـر ذيول العـز مفتخــــرا )

نسبة الفقير من خلاّنه نسبة محبّ عاشق وودّ مدام , يتلوه شاهد ورود قلبه على مرّ الدوام , فلا يرى جمالا غير جمالهم , ولا لاحظ حسنا يعادل قبسا من نور كمالهم , لسان حاله يقول والفكر في محياهم يجول ( هم أهل ودّي ) إذ بهم اتصلت نسبتي وتعطّرت وصلتي ( وأحبابي ) الذين ليس لي غيرهم في القلب أنيسا ولا في الفؤاد حبيسا , ترعاهم مهجتي أن تخون وصالهم , أو تخدشهم فترتي بنسيان خصالهم , إذ من فرط عزّهم غزا قلبي فضلهم , فهم السلاطين والأمراء الذين يجرون ذيول العزّ مفتخرين , على منابر العاشقين كالؤلؤ متناثرين , وصف جمالهم الذي آسرني , وحال عزّهم الذي أفخرني

قال عليه الصلاة والسلام ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر ) فهذا سيّدهم الذي إليه ينتسبون وبه يفتخرون فآتاهم من سيادته طرفا فأصبحوا أسيادا , وفي عقده صدفا رتّبهم أقطابا وأوتادا , قال تعالى ( محمد رسول الله والذين معه ) فأظهر إسمه لظهوره , ثمّ أخفاهم في مظهره لسطوة نوره , فهم منه وإليه ..


إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

10 مايو 2017 08:42

زادك الله فضلا وعلما أخي علي،
هذا شرح مُسدّد من عالم الغيب.. النظم مختصر والشرح مختصر أيضا، ومع ذلك لخّصا أصول الطريق وقواعده فيما يُعرف بــ"السهل الممتنع".
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

25 مايو 2017 03:26


جزاكم الله خير الجزاء
أنوار
عضو جديد
مشاركات: 11
اشترك في: 24 مايو 2017 03:33
آخر نشاط: 03 نوفمبر 2017 16:13
مكان: الدار البيضاء
العمر: 47
اتصال:


العودة إلى “الأشعار و المواجيد”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد