رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> مقال(4): في مغزى الأمر أحيانا بالخروج من المال

29 مايو 2019 02:53

هذا المقال الرابع من السلسلة، وعلى القارئ استحضار التنبيه الذي سبق مني مرارا على سياق السلسلة وظروفها. وأدعو أخانا الأستاذ علي إذا رأى في المقال باطلا أن يُصحّحه إن شاء واتسع وقته، ولا يتردّد لحظة واحدة، فإن الحق أحق أن يُتّبع:
http://www.riyadlwassiline.com/viewtopic.php?f=20&t=398
المقال الرابع:
في مغزى الأمر أحيانا بالخروج من المال
تتمة للحديث عن العلم والإخلاص يمكن أن نقول الشيء نفسه عن المال، وطلب المربي من المريد أن يخرج عن ماله، أي يتخلص منه تماما. وهذا كان في السلف، أيام كان في الناس قوة وصدق عميق.. ومنذ قرون لا يأخذ التصوف بهذا الطريق إلا قليلا لصعوبته على الأكثرية الساحقة من الناس.. وغاية الخروج من المال هي تصفية النفس من التعلق به، وتوجيهها للتعلق بالله وحده. أعني لو فرضنا قدرة إنسان ما على الإخلاص لله مع غناه وامتلاكه للمال، فهنا لا أظن أحدا يطلب منه الخروج عن ماله، وإذا فعل يكون مخطئا، فسليمان عليه السلام كان ملكا وغنيا، ولا ينقص ذلك من قربه من ربه ومن مكانته الكبيرة عند الله، إلا لماما فهذا بشري، وهي قصة سليمان لما طفق ذبحا بالصافنات الجياد (وهي الخيول) إذ شغلنه عن صلاته عصرا.. لكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. كذلك داود كان ملكا، وكان أواها من الصالحين. وإن كان حال نبينا عليه أزكى الصلاة والسلام أفضل وأعلى، فقد خيّره الله تعالى بين أن يكون ملكا أو عبدا نبيا.. فاختار العبودية.
وكذلك من الصحابة أغنياء كثر كعثمان وعبد الرحمن بن عوف.. والنبي عليه السلام كان يقول: نعم المال الصالح في يد العبد الصالح.
لكن ما القول فيمن أراد السلوك إلى الله، لكن ماله يمنعه ويشغله؟ هنا لا بعد أن يرى المربي أن يأمره بالتخلص من ماله، فهذا غرض صحيح والله أعلم، أعني كما تقول القاعدة الأصولية: إذا تعارضت مصلحتان تقدم أرجحهما. فلو فرضنا هذا الشخص شديد الارتباط بماله، وأنه على شفا جرف هار، وأنه لا يستطيع أن يتعبد لربه ويخلص له مع غناه.. فما قيمة هذا المال إذن.. ففي النهاية الفقر مع القرب من الله أفضل من الغنى مع ابتعاد عنه قلّ أو كثر.
وقد تناول العلماء مسألة أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ وهي مسألة مشهورة في العلم، لكنها تتعلق بشخصين كلاهما على هدى من الله وكلاهما على استقامة وخير، فالواحد صابر والآخر شاكر.. وأحدهما غني والآخر فقير، فيكون للموازنة والترجيح بينهما سبيل، فالمسألة في محل الاجتهاد. لكن مسألتنا الأولى تختلف، فهي الغني الذي غفل عن ربه وعن شكره، أو هو يذكره طورا وينسيه مالُه ذكر ربه أطوارا: فهذا هو الذي يحتمل أن يؤمر بالتخلص من ماله. وليس هذا على سبيل الفتوى الفقهية، إذ لا شك فقها أنه ليس على صاحب المال الحلال أن يخرج من ماله. فهذا باب وراء الفقه، هو إلى التطوع أقرب، وهو في الحقيقة يخص فئة قليلة جدا من الناس، هم الذين يسارعون في الخيرات، لذلك جاءت الشريعة على النمط الأوسط، بلا إفراط ولا تفريط، فهي تراعي الأكثرية من الناس ممن استعداداتهم متوسطة. وأصل ذلك القرآن الكريم: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ذلك هو الفضل الكبير.) ولا شك أن المقتصدين لا يستطيعون الخروج من المال، ولا ينبغي أن يكلفوا بذلك، فهذا تكليف غير واقعي أولا، وغير مطلوب ثانيا.. لأن للمال مكانة في الإسلام، ودورا عليه أن يؤديه، وقد أمر الله بالصدقة والزكاة وعمران الأرض.. فكيف يكون ذلك إذا كانت الأمة جماعة من الشحاذين المعدمين، فهذا لا يشرف الإسلام. فوجود رؤوس أموال ضخمة في الأمة الإسلامية شرط من شروط نهضتها، كما كانت رؤوس الأموال بأوربا شرطا لنهضتها الحديثة، كما أوضح ذلك ماكس فيبر في كتابه النافع: الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية.. على شرط ان تكون هذه الأموال من حلال وتصرف في حلال وتخدم الأمة، أي تنشىء الصناعات اللازمة وتستصلح الأراضي الواسعة وتستثمر في التقنيات والأدوات التكنولوجية.. باختصار لا يمانع الإسلام في ظهور بورجوازية وطنية وإسلامية مخلصة، لكن ليست كهذه البورجوازية السخيفة في عالمنا العربي، والتي يسميها الماركسيون العرب عن حق بالبورجوازية المتعفنة لأنها قامت وتقوم على السلب والنهب واستغلال النفوذ.
نرجع إلى مسألتنا، فالفتوى هنا فتوى فردية، تخص الأفراد، فإذا كان المالك أسيرا لماله ولم يستطع الفكاك من هذا الأسر، فهو يشغله عن ربه وآخرته، فإن آخر الدواء الكي.. وهذا لا يمكن معرفته إلا من طرف المالك نفسه، وهنا نقول له: استفت قلبك، وإن أفتاك المفتون. فهذا من أبواب ما يمكن تسميته بـ:فتوى القلب. وفي السائرين من يتولد عنده، بسبب معاناته وتعلقه بالمال، كره شديد للمال ورفض له، وهذا ليس كرها للمال في ذاته، بل لأنه يراه عائقا في طريقه إلى ربه.. لذلك ترك جماعة من الصالحين ثرواتهم كالمحاسبي وابن عجيبة وغيرهم كثير.. وترك ابن للخليفة هارون الرشيد معيشة القصور وساح في الأرض لا يعرفه أحد.. في قصة عجيبة يحكيها ابن الجوزي في صفة الصفوة، والأصفهاني أيضا –فيما أظن- في حلية الأولياء.
إن المالك قد يكون على خطر، وقد يكون غارقا في الدنيا، يعبد ماله بالليل والنهار، وهو غير واع بذلك وغير منتبه لنفسه : (نسوا الله فأنساهم أنفسهم)، فهنا يفيد المربي النافذ البصيرة العليم بخبايا النفوس، فيبادر إلى تخليص المالك من ماله. والكمل من شيوخ التصوف، وهم النادر، يفعل ذلك بالتدريج وبالرفق. ويحكي ابن المبارك قصة عن شيخه عبد العزيز الدباغ كيف كان يصحبه رجل غني من أهل الفلاحة، وكان هذا الرجل مشغولا كثيرا بتربية الثيران، ورأى الشيخ ضرر ذلك عليه وأنه غارق في عالم الأبقار هذا، بالليل والنهار، لدرجة أنه لا ينتفع بالصحبة والنصيحة، فاحتال عليه وتلطف به حتى أقنعه ببيع هذه الثيران، والاستفادة من المال في نشاط اقتصادي آخر.. فلما فعل ذلك أصبح الفلاحُ يبصر بشكل أوضح، فأدرك ما كان فيه من الغفلة، ثم شيئا فشيئا ترقى في أحواله وكان من الفالحين.
والحاصل أن المال فتنة عظيمة، بل هي من أشد فتن الدنيا وأصعبها على النفس.. فإذا تغلب المرء على هذه الفتنة، فالأحسن أن يبقي المال بيده بعد أن أخرجه من قلبه. لكن إذا فشل في ذلك ولم ينجح، فقد يكون الحلّ في قرار واحد وحاسم بالخروج تماما من هذا المال، فيكون ذلك كمن واجه سبعا في طريقه، فإذا تغلب على السبع فبها ونعمت، ويكمل طريقه. لكن إذا هزمه السبع كان الأفضل له أن يهرب منه حتى لا يأكله السبع.. والذي واجه السبع وأكمل طريقه خير من الذي هرب منه، كذلك المالك الذي يحتفظ بماله ويسخره للخير، ويجاهد نفسه ويتغلب عليها.. يكون أفضل من الذي خرج عن ماله وآثر السلامة، كما قال النبي عليه السلام: الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.. لكن شرط ذلك أن يتغلب على نفسه وهواه، وإلا فحال الثاني أفضل. لكنني أقيد هذا بجملة أمور:
1-الأحسن عدم التصدق بماله في باب الإطعام، لأن مصلحته محدودة ومؤقتة. والأفضل –خاصة إن كان المال كثيرا- أن يقدمه لمؤسسة، إما خيرية أو علمية أو اجتماعية.. فالمقصود مؤسسة نفع عام تستثمر هذا المال لصالح الأمة. ولا يكون المتبرع بالضرورة هو صاحبها ومسيّرها. وهذا هو الدور الذي كانت تؤديه مثلا مؤسسة الوقف في تاريخنا، وهي التي نقلتها أوربا بعد الحروب الصليبية وطورتها. ولعل من الأمثلة القريبة لهذا الأمر بيل غيتس الذي تبرع بأكثر ثروته ووضعها في مؤسسة باسمه واسم زوجته.
2-أن يترك بعض المال لورثته، لأن الخروج من المال ليس واجبا، وللورثة حق فيه، وقد لا يطيقون ما يطيق المتبرع. والرسول عليه السلام أوصى بهذا حين قال لصحابي أراد التصدق بجميع ماله في مرض موته: أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
3-استبقاء بعض المال لنفسه، إذ لو خرج عنه كله لافتقر، والفقر بلاء والدنيا بلاغ، فليُبْق معه ما يعيش به كي لا يضطر لسؤال الناس أو الاشتغال بعمل مرهق قد يتعبه ويبدد طاقته.. فلا تبقى له قوة على التعبد والذكر.
لكن لو أصرّ على التطوع بجميع ماله وعدم استبقاء شيء منه.. فهذا توكل صحيح ومقام نادر، وأصله عمل أبي بكر حين جاء بماله كله وقدمه للنبي عليه الصلاة والسلام، بينما جاء عمر بنصف ماله. وحين سأله الرسول: ما أبقيت لأهلك؟ أجاب الصديق: تركتُ لهم الله ورسوله.. رضي الله عنه.
في النهاية المال وسيلة وليس غاية، وفي الحساب الأخير غاية المؤمن هي الله تعالى لا المال.
من هذا يتبيّن أن فكرة الخروج من الأموال في بعض مناهج الصوفية فكرة صحيحة ومشروعة، لكن الخطأ في جعلها فتوى عامة لعموم الخلق، فهؤلاء حسبهم أن يؤمروا بكسب المال من حلال، وأن ينفقوه في حلال، وأن يؤدوا حقوقه كالزكاة ومواساة الأقربين.. وهم إذا فعلوا ذلك كانوا من كبار الفالحين في الدنيا والأخرى.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

29 مايو 2019 19:47


جزاكم الله خيرا سيدي إلياس بلكا وبارك فيكم

المقال لا أرى به بأسا فهو جيد في بابه شمل مختلف جوانب الموضوع
موضوع المال حساس جدا عند مختلف طوائف الناس كونه موضوعا يلتبس فيه الحق بالباطل ويحدث فيه خلط كثير ..

الزهد الحقيقي زهد القلب لا زهد اليد وإنما شرّع الصبر على الفقر ونقص الأموال لتقوية اليقين والتحلي بمقام التوكل لكن غالب هذه الأحوال خاصة بأهلها من ساداتنا الأولياء وأنا العبد الفقير أشهد الله تعالى وملائكته ورسله كوني لست من أهلها ولا أعرف حقائق هذه المقامات ولا عمري اتصفت بها لذلك لا يمكنني الكلام فيها ولا الحكم عليها ففاقد الشيء لا يعطيه ..
..
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

29 مايو 2019 21:43

أحببت مقالكم سيدي الدكتور إلياس أسأل الله أن يجزيكم خيرا ويحفظكم وينفع بكم عباده
وجزى الله عنا سيدنا علي الصوفي خير وعظيم الجزاء
فارس النور
عضو جديد
مشاركات: 26
اشترك في: 15 مايو 2017 12:57
آخر نشاط: 18 يونيو 2019 16:59
مكان: دمشق
العمر: 42
اتصال:

31 مايو 2019 00:18

بارك الله فيكم سيدي فارس النور. وجزى الله خيرا عنا أخانا سيدي علي.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد