رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> سلسلة شهر رمضان..(17): كمال نزول القرآن بشهر رمضان

24 مايو 2019 01:12

سلسلة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (17).
كمال نزول القرآن بشهر رمضان:
كتب الأستاذ علي الصوفي:
قال تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ).
رأينا سابقا سرّ ظهور خصوصية شهر رمضان في هذه الآية، وكذلك خصوصية نزول القرآن فيه من حيث إنّ القرآن ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ؛ فدَلّك هنا على معنى السُّلوك والسيْر إلى الله تعالى في مراحله الثلاث: مرحلة أهل البداية في مقام الإسلام والإيمان: ( هُدًى لِّلنَّاسِ )، ثمّ مرحلة أهل التوسّط في مقام الإيقان: ( وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى )، ثمّ مرحلة أهل النهاية من حيث فُرقانهم بين القديم والحادِث: ( وَالْفُرْقَانِ ) ؛ فذكر هنا من أسماء القرآن ثلاثة: الهدى والبيّنات والفرقان، أي إسلام وإيمان وإحسان، أو إن شئت قلتَ: إيمان وإيقان وإحسان، أو إن شئت قُـلت: نزولٌ على مستوى العقل ونزول على مستوى القلب ونزول على مستوى الروح، متى علمت أنّ للعقلِ من الفهم علومَ الأسماء، وللقلب علوم الصفات، وللروح علوم الذات. وكلٌّ عن حالِه من المُفسّرين يتكلّمُ.
فكان لاسم الشهر ( رمضان ) مقابلة لاسم الكتاب ( القرآن )، فحيثما ظهرتْ خصوصية شهر رمضان ظهر معه ذكر القرآن، إذْ لا يعرّف شهر رمضان خاصّة إلاّ بتعريف نزول القرآن فيه؛ فإذا علمت ذلك فاعلم أنّ مستوى نزول القرآن في شهر رمضان ليس هو مستوى نزول القرآن في ليلة القدر، إذ لو كان نزوله من جميع أوجُهه في ليلة القدر ما وقعتْ خُصوصيّةٌ لشهر رمضان إلا مَقرونا بذِكر ليلة القدر التي أُنزل فيها القرآن، فإذا صَحّ عدم القَرن من حيث تعدّد أوجه نزول القرآن -فهو بينَ جمع وفرْق، وبين حقيقة محمّدية وحقيقة إلهية- فاعلم أنّ مستوى نزول القرآن في شهر رمضان له من الحقائق: الحقيقة الإلهية، بِخلاف نزوله في ليلة القدر فلها من الحقائق: مرتبة الحقيقة المحمّدية.
لذلك عند ذكر نزول القرآن فيها لم يذكر من أوصاف القرآن ما ذكره عند ذكره لشهر رمضان من حيث إنّه هدى أو بيّنة أو فرقان، بل ذكر فعل النزول ولم يُصرّح بذكر القرآن اسما ظاهرا كما في هذه الآية، وإنّما أخفى ذكر اسم المُنزَل الذي هو القرآن، بينما أظهر ذكر اسم الليلة التي أنزل فيها وهي ليلة القدر، فعدّد مزاياها وخصوصياتها ،كما قال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ )، فالمراد هنا ذكر ليلة القدر وليس ذكر القرآن، وإنّما جاء ذكر القرآن بيانا لما اختصّتْ به تلك الليلة في أعلى وأرْقى وِصالها واتِّصالها بالحضرة العليّة، وهو نزول القرآن فيها، فكأنّ حدَثَ نزولُ القرآن فيها زاد في شرَفها و بركتِها وجمالها وسلامِها، فعُرّفَت تلك الليلة بدايةً بنزول القرآن فيها إشارةً إلى أنّها على هدى وبيّنة وفرقان، فكأنّ نزول القرآن فيها هو الذي شَرّفها بالاختصاص بعلم القدَر كما قال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )، فجاء القرآن مُتوافقا منسجما مع حقائقه من حيث عِلم القدَر وعلم الحكمة وعلم التوحيد.. إلخ.
فنزل القرآن على حقائقه الثلاث صلى الله عليه وسلّم:
- حقيقة عقليّة كمالية: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ )، فذكر بدايةً العقلَ هنا ثمّ ذكر الغفلة، والمُراد بها غفلة عقليّة، أي غفلة عن شُهود آثار عالَم الأسماء، لفنائه صلى الله عليه وسلّم في ذات المولى، لذلك رَدّه إلى اعتبار عالم الأسماء على نعْت الجمع والبقاء: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ).
- حقيقة قلبيّة جمالية: ( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ) حيث إنه في هذه المرتبة يكون الملَـك هو المُكلف بالتنزيل، متى علمنا أنّ مرتبة القلب مرتبةُ معاني، فمَن لم يتنزّل الملك على قلبه بالمعاني فلن يتدبّر القرآن، متى علمنا أنّ المعاني الحسان ما هي في حقيقتها غير ملائكة كرام.
- مرتبة روحية جلالية: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ).
فكان نزولُه في ليلة القدر مرتبةً قلبية، ونزوله فجرا بين الليل والنّهار مرتبة عقلية، ونزوله في شهر رمضان مرتبة روحية. فنزل القرآن في شهر رمضان على أوْجهه الثلاثة، لذلك جاء ذكر الفعل بالمبني للمجهول: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ )، أي نزل من قِبل الله تعالى في مرتبة الروح والقلب والعقل، وهو معنى نزول الكتاب: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا )، ونزل به جبريل في مرتبة القلب: ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ )، ونزل به جبريل أيضا في مرتبة العقل: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ).
فمَثّلَ شهرُ رمضان بقيّةَ الشهور الأخرى إذ إنّه قُطبها ورَحاها الذي تدور عليه وتسجد كرامةً له، فمَهما نزل القرآن في الشهور الأخرى فقد نزل من حيث مرتبة العقل، بينما نزل في مرتبة القلب في ليلة واحدة، وإنّما نزل في شهر رمضان نزولَـه الكامل من جميع أوجهه، فكأنّه من هذه الحَيثيّة ما نزل إلاّ في شهر رمضان، فتكون ليلةُ القدر هنا تابِعة لا مَتبوعةً في هذا النزول، فتَرجِع إلى الإِمام الذي هو شهر رمضان، وإنّما تَجوّلت ليلةُ القدر على كامِل شهور السنة لأنّها مِن حقيقة شهر رمضان الذي تدور جميعُ الشهور حولَه وبه تطوف، فكان شهر رمضان مَركزَ السَّنة، فتجوّل بنفسه على كامل السنة وفيها سَرى بِسَريانه، فهو يدور على كامل السنة فتدور ليلة القدر بدورانه، لذلك يكون الحساب الديني بالأشهر القمريّة لأنّها مجالُ التحقيق، فالأشهر الشمسيّة ثابتة بينما تحرّكت الأشهر القمريّة، فدارت الأزمان بحسب دوران القرآن: ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ).
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد