رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> سلسلة شهر رمضان..(16): الزمان والمكان في العبادات ورمضان

23 مايو 2019 03:19

سلسلة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (16).
الزمان والمكان في العبادات ورمضان:
كتب الأستاذ علي الصوفي:
قال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )
علاقة الأزمنة بالعبادات أشمل من علاقة الأمكنة بها، متى علمتَ أنّ لِجُلّ قواعدِ الإسلام -كما قدمناه في مقال سابق- أزمنةً محدّدة، كالزكاة حيث تعيّن بلوغ الحول بعد النصاب وهو وحدة زمنيّة، وكالصيام تعيّن فيه حلول شهر رمضان وهو وحدة زمنيّة، وكالحجّ : ( الحج أشهر معلومات.. الآية)، وكالصلاة في أوقاتها ؛ بينما تعيّنت معظم تلك العبادات في جميع الأمكنة كما قال عليه الصلاة والسلام: "ما أدركتم الصلاة فصلوا،" لقوله صلى الله عليه وسلّم: "جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا."
لذلك أن تصومَ في القطب الجنوبي أو القطب الشمالي فالصومُ واحد، وربّما يستوي الأجر أو يختلف بحسب عوامل العبادات وليس بحسب العبادات نفسها، كالصلاة في مكّة لها من الأجر ما ليس تَجنيه من مُضاعفة في مكان آخر، لكن يبقى أجرُ الصلاة من حيث هي صلاةٌ ثابتا، وكذلك حقيقتُها تبقى حقيقتُها كونُها مِعراجَ المؤمن، قال ساداتنا العارفون رضي الله عنهم: " المريد ابن وقته،" ولم يقولوا: " الفقير ابن مكانه،" لأنّ علاقَـتك مع الله تعالى تكون في الأنْفاس التي هي الأوقات..
لذلك أشارَ عليك باعْتبار حقوق الأوقات كحقوق شهر رمضان من حيث الصيام والقيام، فَـلاحَت العلاقة المتلازِمة بين الأزمنة وبين التشريعات والأحكام، وكذلك بين الأزمنة وبين التجلّـيات والحقائق، لذلك أشار لك في قصّة أهل الكهف بقوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً )، فعلاقة كرامَتهم بالزمان واضحة، وهكذا ترى علاقة علوم الأقدار وعلوم الحكمة وعلوم القدرة وعلوم الفضل...إلخ، لها ارتباط وثيق بالأزمنة؛ لذلك أخبر عليه الصلاة والسلام عمّا سيكون من زمانه وإلى يوم القيامة كي تُراعَى حقوق الأزمنة، فيكون المسلم ابنَ زمانه، فالذي لا يَقدر أن يكون ابن زمانه لا يمكنه بناء زمانه ولا إقامة حضارته ،وهذا ما يُعانيه أهل الإسلام اليوم كونُهم يعيشون وقتا غير وقتهم، فتجاوزَتهُم أحداثُ العالم.
فإذا علمت مثلا أنّك اليوم في زمن الدجّال الذي يَخرج آخر الزمان فعليك أن تكون في مستوى ذلك الزمان الذي سيظهر فيه، وتكون عالِما في الدين بحسب واقع زمانك، لذلك أشار لك كما قدمنا بقوله: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ )، فكأنّ ذلك النزول يتكرّر كلّ سنة وكأنّ ذلك النزول يكون في كلّ شهر رمضان، وكأنّ ذلك النزول يكون في كلّ ليلة قدر، وكأنّ ذلك النزول ينزل متجَدّدا على قلب النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فذكر لك قلبه تحديدا دون جسمه، فاعلم أنّ أولياء كلّ زمان يتلقّون نزول القرآن من قلبه الشريف صلى الله عليه وسلّم كلّ شهر رمضان وكلّ ليلة قدر وكلّ سنة لكون علاقة القرآن بالزمان علاقة مترابطة ووثيقة..
ولحقوق الأزمان والأوقات أيضا علاقة بالناس من حيث زمانهم، ومن حيث مكانهم كذلك. فمن حيث زمانهم لا بدّ أن يكون ذلك القرآن هدًى لهم على مدار الزمان على اختلاف مَشاربهم وحقائقهم، وكلّ اختلاف فيهم كاللون واللسان والعادة والطبائع: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) ؛ ثمّ من حيث المكان الذي يكون وِجهةُ التوجُّه فهو جامع للناس جميعهِم: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ).
فاجتمعت هنا بركة الزمان -الذي هو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن- مع بركة المكان الذي هو مكّة، لذلك تعيّن نزول القرآن في مكّة على رجل من مكّة حتى تستوي سفينةُ الحقائق على جُودي كهف التحقيق، متى علمت أنّ نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلّم في غار حراء إشارة إلى أنّ القرآن كهفُ أسرار، إذ مِن علامة الكهوف ستر الأسرار، فوَجب استشعارُ وجود أسرار القرآن في القرآن لمناسبة نزوله في غار حراء حيث الاخْـتلاء الذي هو التوجّه والتجريد المَحْض عن الأكوان، فنزل ذلك القرآن على القلب حيث مجمع اللقاء.
فجاءت جميع سور القرآن بين مكيّة ومدنيّة، أي بين حضرتين: إلهية ومحمّدية، لكون الكون بأسْره ظهر بين حقيقتين: حقيقة نِسبيّة وهي الحقيقة المحمّدية، وحقيقة إلهية وهي الحقيقة الكليّة المطلقة، فهذا معنى شهادة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله . فمَن شهد الثانية دون الأولى فقد حَجبتْه الأنوار عن مشاهدة عالم الأسرار، ومن شهِد الأولى دون الثانية فقد جذبتهُ الأسرار عن مكاشفة عالم الأنوار، والكامل من جمع بينهما من حيث ( ما زاغ البصر ) عن شهود وِحدة كمال الذات.. ثمّ ( وما طغى ) في عالم وَحْدة الأسماء والصفات لذا قيل في الشهادتين: إنّها شهادة التوحيد، رغم ورود ذكر الحضرة المحمّدية فيها لأنّ من كمال التوحيد وتمامه ترتيب مراتبِه كي يَصحّ الأدب في حضرة قدسيّة العلم ويصحّ الذوق في حضرة صفاء الأحوال..
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد