رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> مقال (2): في الإخلاص وسجود القلب

24 يناير 2018 21:35

هنا رابط المقال السابق للتعرّف على سياق السلسلة وسببها:
http://www.riyadlwassiline.com/viewtopic.php?f=20&t=325
(2)
في الإخلاص وسجود القلب

رأينا أن للعلم فضلا عظيما، لكن نية العالم والمتعلم معرضة للفساد. ذلك أن المشكلة الكبيرة هي صعوبة الإخلاص، فقد سئل واحد من كبار الصالحين عن أشد شيء عالجه في طريق التصفية والتحلية طيلة مجاهداته لعشرات السنين، فأجاب بأنه الإخلاص. ويفسر الشاطبي ذلك في كتابه الموافقات بأن النفس تجد صعوبة هائلة في القيام بشيء ليس لها فيه حظ، وشرط الإخلاص التام ألا يكون للنفس أي حظ.. وهذا صعب جدا، فهوى النفس قوي جدا لا يكاد يملك قمعه إلا النادر في الناس، وهي درجة (الإنسان الكامل) التي أشار إليها الحديث الصحيح: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاثة.. الحديث. لذلك كان بعض الصوفية يرفض القيام بأي أمر مهما كان بسيطا إذا لم تكن له فيه نية سليمة.. فهو يريد أن تكون حركاته وسكناته كلها لله خالصة.. وهذا كله صحيح وغرض مقبول كما بيّن ذلك الشاطبي إمام المقاصد. لذلك كان بعض الصوفية يقولون: آخر شيء يخرج من قلوب الصديقين: حب الجاه. ويحكي ابن تيمية عن أبي يزيد البسطامي أنه خاطب رب العزة في المنام، وسأله: يا ألله، كيف السبيل إليك. فقال له سبحانه: اترك نفسك وتعال.
والعلم لا يخرج عن هذا الإطار.. فالقضية تؤول إلى الغايات ما هي، وما المطلوب منا أصلا في الدنيا؟
وكثير ممن ارتفع من السلف والصالحين عاليا وفي المقامات عارجا كان سره هو الإخلاص، كما قال الإمام أحمد عن عبد الله بن المبارك: إنه ما ارتفع مقامه في الدنيا إلا بسريرة بينه وبين ربه لم يكن يعرفها أحد. وكما قالوا أيضا في الإمام مالك وما كان من تلقي الأمة له بالقبول والإمامة، لذلك بارك الله فيه وفي علمه وتآليفه، بينما ألف كثيرون موطآت عديدة، لكن لم يهتم بها الناس، واندثرت بعدهم.
ونظر لصعوبة الإخلاص فقد اعتبره الشارع أفضل العبادات وأعلى الأعمال، كما في قوله تعالى: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وهو معنى الإسلام في قوله: (إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين..)، وهو المعنى العميق أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال: لا إله إلا الله.. إشارة إلى إخلاص الأمر كله لله تعالى. والله سبحانه غيور لا يقبل أن يشرك به شيء، بل يحب من العبد أن تكون وجهته جميعها لوجه الله. ولعل هذه الصلة بين التوحيد والإخلاص هي سبب تسمية سورة قل هو الله أحد بـ: سورة الإخلاص، على القول بأن أسماء السور توقيف لا توفيق، كما هو مذهب الجمهور.
والحلّ الذي أشار إليه الشاطبي أيضا هو أن يحرص المرء على سلامة نيته ما أمكنه ذلك، فإن كان لنفسه حظ من العمل فلا بأس به على أساس أن تكون النية الأكبر لله، بمعنى أنه لا بأس أن تكون للمرء نيتان إحداهما خالصة والأخرى نفسية، لكن تكون الأولى أصلية والثانية تابعة.. وهذا الحلّ هو الحل الواقعي الذي يمكن للناس بلوغه بالمجاهدة والمحاولة، أما الإخلاص التام فمجال شاق جدا للمحاولة والمطاولة، لكن لا سبيل لمعرفته، وهذا معنى حديث أنه يمكن للإنسان أن يعمل أعمالا كثيرة لا يكون لها يوم القيامة وزن، وأن بعض الأعمال القليلة هي التي تنجي صاحبها لثقلها في الميزان، وهي الأعمال التي كانت خالصة لله وحده. والمؤمن حين يعمل الطاعات لا يستطيع أن يميز بسهولة هذه من تلك، لذلك كان السلف دائم الخوف ولا يدري هل تقبل أعماله أم تُرد في وجهه. وعلى هذا وأمثاله يتنزل حديث النبي الكريم: القلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فما شيء أشد تقلبا وتفلتا وتغيرا من القلب، وهو محل النية، كما قال النبي العظيم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
وقد أرشدنا الإسلام إلى أساليب لاكتساب الإخلاص، منها في حديث السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: صدقة السرّ لدرجة أن يد الشمال لا تعلم ما فعلت اليمين، والرجل الذي ذكر الله في مكان خال لم يره أحد فبكى، والذي دعته امرأة ذات جمال فتعفف.. ونحو ذلك، ولذلك كان السلف يحرص مثلا على أن يصلي بالليل والناس نيام.. وقد روي أن الجنيد رحمه الله رُئي في المنام، فسئل عن حاله، وهو إمام الصوفية الذي مهّد علومها واصطلاحاتها، فقال: طاحت تلك الإشارات وذهبت تلك العبارات، ولم تنفعنا إلا ركيعات في جوف الليل..
لكن حتى الذي يسلك هذا السبيل على خطر، وهو أن يدخله العُجب بالنفس، فيرى نفسه كثير العبادة، بل ربما ظن نفسه من كبار المقربين.. فيرجع الأمر مرة أخرى إلى تجاذب النفس بين الإخلاص لله والإخلاص لنفسها وهواها، لذلك سمى نبينا الرياء بالشرك الخفي لأنه يدخل على النفس من حيث لا تحتسب.. وهنا لابد من توفيق الله للعبد، أعني أنه من دون رحمة الله تعالى لعبده وتقويته له وتقريبه منه.. من دون ذلك من الصعوبة بمكان أن ينجح المرء في صراع النيات هذا. وهذا من معاني ما جاء في عشرات النصوص عن هداية الله وتوفيقه وإعانته لعبده الصالح، وعن خذلانه وإضلاله لغيره: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا).. فالمقصود أن العبد يحرص على المحاولة الدائمة، فإذا عرف الله منه الإصرار والصدق.. جذبه إليه. وإذا جذبه إليه وأدخله حضرته القدسية، فرأى من الأنوار ما رأى، ومن آيات ربه ما قُدر له دون الورى.. فقد فاز واجتاز القنطرة، ولم يعد يُخاف عليه من الشرك ظاهره وخفيه، جليله ودقيقه.. وإن وقع كان يسيرا معفوا عنه، سرعان ما ينتبه له فيستغفر ويعود، لذا لا تخلو العبودية الحقة عن الاستغفار الدائم: كان خير الخلق يستغفر الله سبعين مرة.. والله أعلم، وهو سبحانه أجلّ وأحكم.
يتبع..
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

26 يناير 2018 01:44

جزاكم الله خيرا أستاذ إلياس

مقال مفيد ينتفع به طلاب العلم والعلماء والعامة على حد سواء إن شاء الله تعالى

فقط ضميمة أحببت كتابتها وهي ؛

ان الوصول إلى تحقيق الإخلاص ثم سر الإخلاص الذي هو التبري من شهود الإخلاص نفسه يكون عن طريق التزكبة بين تحلية وتحلية بيد أن السالك يتحقق في بداية سيره بالمقامات والأحوال ثم بعد تحققه بها ينتقل إلى مرحلة البراءة منها ومعنى هذا أي أنه لا يشهد من نفسه اخلاصا ولا صدقا من باب نافق حنظلة

لأن الذي يشهد تحققه بالمقامات كتحقق العبد بمقام الإخلاص فيه علة شهود نفسه لإخلاصها فمتى شهدت النفس في نفسها كونها أصبحت من أهل الإخلاص فتلك علة العلل لأن العبرة ليست فقط التحقق بالمقامات وإنما العبرة كل العبرة بعد التحقق بها الغيبة عنها وعدم شهودها بل تجد العبد دائمآ في اتهام نفسه مهما بلغت من درجات الكمال لأن النفس تبقى نفس ولو كانت عارفة بالله وفي قصة إبليس لعنه ألله تعالى خير مثال حيث شاهد الخيرية في نفسه انا خير منه فكان من أمره ما كان

الوصول إلى التحقق بالمقامات بكون عبر التزكية كمقام الإخلاص أو الصفاء أو الصدق الخ

فمدرسة التزكية تجدها عند شيوخ التربية المأذونين من دخل تلك المدرسة بصدق تحقق بكل ما عجز عامة علماء الرسوم والعوام عن التحقق به من مقامات وأحوال

انظر مثلا كيف عجز إبن حزم عن تزكية نفسه بنفسه كما هو واضح في كتابه الذي الفه في هذا المضمار لذا قالوا انه على النفس أن تدخل تحت تربية غيرها من أهل الله فلا يمكن لنفس أن تزكي نفسها بنفسها وهذا ما لم يفهمه علماء الرسوم دخلوا في باب المجاهدة والرياضة من غير إدراك تام بأمراض النفوس وتلبيساتها ودسائسها لهذا لا تتزكى النفوس إلا في مصحة شيوخ التربية

اما الذي يظن أنه يمكنه أن يربي نفسه بنفسه ويزكيها فهو مخطئ وهو بذلك يبطل معنى قوله تعالى ( ويزكيهم ) لأن النقس ما تزال رافضة الدخول تحت حكم غيرها بينما أمرها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن تدخل تحت حكم الربانيين ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)

غاية ما يجب على المؤمن فعله هو إعانة شيخ التربية على تزكية نفسه لا أن يتصدى له كما ورد في الحديث عن ذلك الصحابي الذي سأل رسول ألله صلى الله عليه وسلم مصاحبته في الجنة فقال له ( اعني على نفسك بكثرة السجود )

فأنت بمجاهدتك لنفسك من حيث الإلتزام بذكر ألله وطاعته تعين شيخك على تزكية نفسك
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

28 يناير 2018 01:56

بارك الله فيكم السيد علي،
وأذكّر القراء بأن مقالاتي هذه في السلوك كتبتها منذ سنين، حيث لم يكن ذوق ولو قليل في الطريق.. وأضعها هنا نموذجا لأهل الفكر والعلم لمّا يتحدثون في التصوف أنهم لابد أن يكون في حديثهم قصور وأخطاء، لأنهم ببساطة ليسوا فرسان هذا الشأن.
انظر هنا الرابط:
http://www.riyadlwassiline.com/viewtopic.php?f=20&t=325
وأزيد ملاحظة أخرى -أ.علي- فيظهر لي أن كلام الشاطبي في إمكان أن يكون للنفس حظ تبعي في العمل هو كلام قد يصحّ على طريقة الفقهاء، لكنه لا يصح على طريقة أهل الله، لأن هؤلاء لا يعترفون إلاّ بالعمل الخالص لله تعالى، ليس فيه أيّ حظ للنفس.. ومهما كان للنفس حظ ولو ضئيل في عمل ما يكون ذلك نزولا عن المطلوب وعن المقام الأعلى. والله أعلم.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

28 يناير 2018 13:09

إلياس بلكا كتب:وأزيد ملاحظة أخرى -أ.علي- فيظهر لي أن كلام الشاطبي في إمكان أن يكون للنفس حظ تبعي في العمل هو كلام قد يصحّ على طريقة الفقهاء، لكنه لا يصح على طريقة أهل الله، لأن هؤلاء لا يعترفون إلاّ بالعمل الخالص لله تعالى، ليس فيه أيّ حظ للنفس.. ومهما كان للنفس حظ ولو ضئيل في عمل ما يكون ذلك نزولا عن المطلوب وعن المقام الأعلى. والله أعلم.


جزاكم الله خيرا سيدي إلياس وبارك فيكم وفي علمكم وفهمكم

الذي يجب الصيرورة إليه ادراك الفروق عند قراءة تأصيل مسائل المقامات وتفصيل أحوال القلوب بين كلام الفقهاء من علماء الشريعة وبين كلام العارفين من أهل الطريقة

لأن دخول الفقيه من علماء الرسوم في شرح الأحوال والمقامات سيكون قاصرا من كل وجه في الأغلب لأن فاقد الشيء لا يعطيه مهما علا كعب الفقيه في مجال علوم الشريعة وعلم الرسوم لذلك تجد شيوخ كبار العلماء ومشايخ الإسلام عندما يتصوفون ربما تجد مشايخهم من الأميين الذين لا يفكون الخط حتى كسيدي الإمام شيخ الإسلام عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه كان شيخه سيدي علي الخواص أميا لا يقرأ ولا يكتب فلا هو خريج جامعات ولا درس في مجامع الفقه ولا كتب كتبا وصنف تصانيفا .. الخ بل كان من حيث الظاهر من عامة المسلمين الذين لا يؤبه لهم

لهذا تجد اعتقادات العامة من الناس أكثر صدقا بكثير من اعتقادات العلماء والمفكرين والفقهاء وطلاب العلم والدارسين على مختلف أصنافهم بينما قليل ما تجد فقهاء كبار أو فلاسفة عظام يعتقدون في أهل الولاية كاعتقاد الفيلسوف الكبير والفقيه الجليل " ابن رشد " في سيدي محي الدين بن عربي بينما انظر في الجهة المقابلة كيف كان من شأن الإمام الرازي رحمه الله تعالى ومع جلالة قدره وعلو كعبه فيما يتعاطاه إذ أنه من أكابر العلماء العاملين والفقهاء المدققين لكنه لم يأخذ برسالة سيدي محي الدين بن عربي رضي الله عنه التي أرسلها إليه ينبهه فيها على نقص علمه ومعرفته بالله تعالى وبين له فيها مراتب درجات العلم ومقامات العرفان لكنه لم يرحل إليه ولا إلى غيره من العارفين وبقي محجوبا بما يتعاطاه من نفائس فنه ومغنم تحصيله

أما حجة الإسلام الإمام الفذ الغزالي رحمه الله تعالى لما تصوف ورحل إلى نوال حقائق العلوم وذوق الأحوال والفهوم فقد اتخذ شيخا أميا يعرفه الطريق ويدله على مقامات أهل التحقيق رغم أن الإمام الغزالي لم يذهب في المعرفة ذلك الشأو البعيد الذي وصل إليه كبار الأقطاب والأفراد رغم جلالة قدر الجميع رضي الله عنهم

ولنا في زمان خلف غير بعيد وهو زمان سيدي عبد العزيز الدباغ حيث صاحبه تلميذه سيدي أحمد بن المبارك الفقيه المالكي الذي كتب كتاب الإبريز فقد كان فقيها كاملا وشيخ الإسلام في المغرب بينما كان شيخه سيدي عبد العزيز أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة لكن اعتقد فيه الولاية الربانية والتربية المحمدية والإرشاد فوصفه بالقطبية وفنى في محبته وعاش في خدمته إلى حين وفاته فلو لا سيدي عبد العزيز لما عرف ذكر لكاتب الإبريز بعد كل تلك القرون والعقود

فهؤلاء وغيرهم كثير كانوا من أكابر علماء زمانهم وكبار الفقهاء لكنهم تصوفوا ليسلكوا الطريق ويتخلصوا من علل الأعمال والأحوال والمقامات التي لا يمكن التخلص منها إلا عن طريق الصحبة والخدمة ومن هنا أطلق على الصحابة الكرام وصف مقام الصحبة

فالصحبة هو مقام في الدين أصّله الإسلام وهو مقام سلوكي سيري بالدرجة الأولى وهو يعطي معنى الخدمة والاتباع والملازمة لذلك وصف القرآن زوجة الرجل بالصاحبة ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) لأنها تصاحبه في حله وترحاله غالبا وفي كل وقت من أوقاته ثم لما يعطيه معنى الصحبة من نزول على حكم الصاحب لكون الصاحب هو الرفيق الملازم الذي يكون تحت حكم صاحبه الذي في الغالب يكون شيخه فيعطي مقام الصحبة في درجته الأولى معنى مقام المرافقه ومعنى ما يصدر عنها ظاهرا وباطنا قال المؤمنون من الجنّ ( وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا )

لذا قال صاحب المرشد المعين في معرفة الضروري من علوم الدين سيدي عبد الواحد بن عاشر رحمه الله تعالى :

يصحب شيخا عارف المسالك *** ليقيه في طريقه المهالك

لكون الصحبة عندهم مقام أصله وأسسه القرآن ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ ) فمعنى الصحبة أخص من معنى الصداقة فالصديق شيء والصاحب شيء آخر عند تفصيل معاني الإصطلاحات

لذلك لا يجوز الإستشهاد بكلام الفقهاء الذين لا حظ لهم في معرفة الله تعالى المعرفة اليقينية والشهودية من حيث الصحبة والخدمة والأخذ عن العارفين عند الحديث عن السير والسلوك لأن هذا ليس من اختصاصهم ولا فنهم ففاقد الشيء لا يعطيه فلا يقال مثلا عند الحديث عن السلوك " قال ابن تيمية " ولا قال " الشوكاني " ولا قال " الشاطبي " بل يقال " قال الجنيد " أو " قال الأستاذ الدقاق " أو " قال أبو القاسم القشيري " وهكذا من رجالات الطريقة من أهل الفن والإختصاص الذين ذكرهم القشيري في رسالته أو غيرهم وهم كثير ولله الحمد

لكن عندما تكون نزعة الفقيه فقهية وعلمه عقليا نظريا يغلب عليه الإستشهاد بأعلام المدارس الفقهية مهما كان في ظنه في نفس الوقت أنه يقرب بذلك التصوف من أذهان الناس من المسلمين بذكر أقوال من يحبونه ويجلونه ويعظمونه من العلماء والفقهاء .. الخ

رغم أن هذه نية سليمة قد تعطي ثمارها مهما كانت قليلة وهو بذلك في هذه الحالة لا يكتب للصوفية بل يكتب لغيرهم من المسلمين بينما تجد من يكتب للصوفية ويشرح الطريق لهم حتى ينفي عنه تحريف المحرفين كما فعل الإمام القشيري رحمه الله تعالى في رسالته التي كتب بها كما قال ( إلى الصوفية في بلاد الإسلام ) فهي رسالة مخصوصة وهكذا كل علم من أراده فعليه بأهل الإختصاص فيه ولا يجوز الصيرورة للأجنبي عنه

من هنا ندرك الفروق الهائلة بين المتكلمين في مجال التصوف فشتان بين الصوفي وبين المتصوّف أي المتفعل ثم لا يخفى أن التصوف مدرسة واسعة فهناك تصوف العامة وهناك تصوف العلماء أي علماء الشريعة من فقهاء ومحدثين ومفسرين ومفكرين وأضرابهم بينما التصوف الحقيقي هو تصوف العارفين فهم المخولون لشرح علل أعمال القلوب وأحوالها كما فعل ذلك صاحب الحكم العطائية سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ومن قبله الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الإحياء وكقوت القلوب لأبي طالب المكي والتعرف لمذهب أهل التصوف وفي الزمن الحاضر كتاب حقائق عن التصوف لسيدي عبد القادر عيسى أو كتاب " إيقاظ الهمم في شرح الحكم لسيدي ابن عجيبة " وغيرها من كتب العارفين المحققين رضي الله عنهم أجمعين

لذلك نرى بوضوح قصور علماء الشريعة في تفسير التصوف لذلك رجع سلطان العلماء إلى الأخذ عن سيدي أبي الحسن الشاذلي رغم جلالة علمه وقدره رضي الله عن الجميع ومن ذلك أخذ علماء الزيتونة والقرويين والأزهر وغيرها من مدارس العلوم الطريق على أيدي أهل الله تعالى حيثما كانوا وكان كائنهم وقد أخذ العالم الزيتوني سيدي محمد المداني الطريق على يد شيخه سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنهما في زمننا القريب الحاضر وهم ولله الحمد من شيوخ شيخنا رضي الله عنه

لذلك لا يتوجب على المريد الصادق أخذ سيره وسلوكه والعزم على الصحبة والخدمة عند صوفية الفقهاء الذين منهم الشيخ البوطي رحمه الله تعالى كمثال وغيره كثير ممن نراهم خاصة على القنوات التلفزية بل على المريد الصادق أن يصاحب الشيوخ العارفين ممن جمعوا بين علم الشريعة ومنهج الطريقة ومعارف الحقيقة وهم وإن كانوا قلة فيوجد منهم في كل مصر وعصر الكثير لذلك قيل ( من طلب الله بصدق وجد شيخ التربية أقرب إليه من نفسه )

هذا وغيره كله لا يعني التنقيص من منافع ما في كتب علماء الشريعة من فوائد ككتاب " مقاصد الشريعة " للشاطبي الإمام رحمه الله تعالى وغيره من أكابر علماء الأمة وفقهائها فحاشا وكلا

لكن حديثنا كان بخصوص تأصيل التصوف وتفصيله وشرحه فإن لكل ميدان فرسانه ولكل فن رجاله

والله تعالى أعلم
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

30 يناير 2018 02:50

ما أحسن ما كتبتم سيدي علي، وفّيتم وبيّنتم. بارك الله فيكم.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

17 مارس 2018 21:51

كلام جميل ونافع جداً دكتور إلياس جزاكم الله خيرا وبارك فيكم..
اسأل الله أن يحققنا بحقيقة الإخلاص حتى نكون من المخلصين وعسى أن يجتبينا الكريم إلى المخلٙصين اللهم ٱمين.
عبدالله حرزالله
عضو نشيط
مشاركات: 61
اشترك في: 01 مايو 2017 16:46
آخر نشاط: 22 مارس 2018 20:58
مكان: نابلس-فلسطين
العمر: 36
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد