رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> النعيم وإن تنوعت مظاهره إنما هو بشهوده واقترابه

07 سبتمبر 2017 03:50


بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه

قال العارف الواصل العالم العامل الصوفي الكامل سيدي بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في كتابه الحكم :

( النعيم وإن تنوعت مظاهره إنما هو بشهوده واقترابه والعذاب وإن تنوعت مظاهره إنما هو بوجود حجابه فسبب العذاب وجود الحجاب وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم )

حقيقة الشيء واحدة وإن تنوعت مظاهرها أو تكاثرت محاسنها وتعددت وجوهها لثرائها فكل متعدد إنما يدور على رحى السر والحقيقة التي تحكمه من حيث علاقته أو ارتباطه بها بانبثاقه منها أو صدوره عنها إذ كل شيء راجع لحقيقته وعائد لأصله

كذلك النعيم في حقيقته راجع إلى طبيعة علاقة العبد بربه من حيث شهوده واقترابه كلما رق الحجاب ازداد النعيم فأكثر الخلق نعيما أكثرهم شهودا واقترابا لطبيعة ما عليه النعيم من علاقة وطيدة بحالة القلوب والأرواح فكلما تنعمت الأرواح ظهر أثر ذلك على الأشباح ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) ما عبر هنا بلفظة " ترى " أو " تنظر " أو تبصر " لما يلحق ذلك من عدم كمال في المعنى

لكي لا يعطي مدلول نعيم الظاهر دون نعيم الباطن فتنصرف الأفهام إلى محسوسات مظاهر النعيم لذا عبر بلفظة " تَعْرِفُ " من العرفان وهو معنى أكمل وأشمل من مجرد الإبصار أو النظر أو الرؤية لأن مجموع البصيرة والرؤية والنظر أفراد من عائلة العرفان ومن هنا سمي العارف عارفا لجمعه بين الرؤية والبصيرة والنظر والسمع .. الخ

لذلك قال تعالى في هذا الباب (  لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ) فذكر هذا المجموع لتعلقه بالمعرفة فذم عدم تحصيلهم أي من أفراد أسرة العرفان بعد أن رتب تلك الأفراد بحسب منزلتها

فبدأ بذكر القلب الذي هو محل الفقه فلا يعتبر فقيه من لم يحصل فقه القلب بل الفقيه فقيه القلب ثمّ ذكر العين التي هي محل النظر من حيث الظاهر والبصيرة من حيث الباطن ثمّ ختم بذكر السمع ليكون محل الإبصار بين القلب وبين السمع

لئلا يزيغ البصر لأن الزيغ والطغيان غالبا ما يكون على مستوى الأبصار ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) فما زاغ السامري إلا من حيث الإبصار ( قالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) لذلك كثيرا ما يحذر القرآن من طغيان البصر ( لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ )

لما ذكر عدم انتسابهم لأفراد عائلة المعرفة وخلوهم من مددها ختم الآية بقوله ( أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فنعتهم بالغفلة هنا دون وصفهم بالجهل لكون الجهل شلل عقلي بينما الغفلة إعاقة قلبية

عبر بلفظ " تعرف " لما يستوجبه سياق وانسياب الحقائق فقابله التعبير بحرف الجرّ " في " عند قوله ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ ) فلو عبر بلفظ " ترى " لجاء بحرف الجر " على " وهي تفيد ظواهر المحسوسات خاصة

وكذلك من جهة أخرى لما يعطيه لفظ " على " من تعريف لمظاهر مكانة التجلي كقوله تعالى (  الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) أي ظهر بإسمه الرحمان حيث ظهر به في الغيب والشهادة فالغيب عند قوم شهادة عند آخرين وشهادة عند قوم غيب عند آخرين

حيث قال ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) أي بريقه ورونقه وسروره وحبوره فكأن النعيم حاله حال سريان في الأرواح ومنه ينتقل أثره إلى الأشباح كمرآة ينطبع فيها كل ما كان في الأرواح فما الأشباح إلا وعاء والأرواح ماؤها من حيث ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ )

فعبر هنا بحرف الجر " في " كأن مبنى النعيم الظاهر الذي يدل عليه ويوصل إليه هي تلك " النضرة " أما معناه وحقيقته فهي كما قال المؤلف رضي الله عنه " إنما هو بشهوده واقترابه " لذلك قال تعالى بعد ذكره لنضرة النعيم في وجوه المتنعمين في الآية التالية ( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ) فذكر الشرب لما تستوجبه حقيقة النعيم من حيث الوصال بالمنعم بعد ذكره لأثر النعيم من نضرة في الوجوه والمحيا ثمّ قال تعالى ( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) فبين لك حقيقة النعيم وحضرته التي هي مصدره وليس بعد هذا البيان بيان

قلت :

تعدد مظاهر النعيم ربما تكون حجابا عن شهود المنعم متى وقف السالك معها وهذا ما عبر عنه الصوفية بقولهم " لا نعبدك طمعا في جنتك " أي لا نعبدك ونحن ملتفتون إلى نعيم جنتك قصد اشباغ رغبات نفوسنا ومعافسة شهواتنا دون قصد نحو مصدر النعيم الحقيقي حيث حضرة زوال الحجاب وشهود الاقتراب فكل ملتفت لا يصل

كما قال في حكمة أخرى ( ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة الذي تطلب أمامك ولا تبرجت له ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها " إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ " )

قال هنا " ولا تبرجت له ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها " أي جميع حقائق ظواهر المكونات بما في ذلك مظاهر الجنان فما الجنان إلا كون من الأكوان صادرة عن قوله تعالى " كن " لأن لكل ظاهر حقيقة لا تنادي المؤمن إلا بعدم الإغترار بها فهي فتنة ففي كل الأحوال لا تناديك من ظواهر المكونات إلا هواتف حقائقها ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ) (  وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ )

لتدرك بعد هذا أن الخلل ليس في هواتف حقائق الأكوان فكلها تناديك بأنها ليست المقصودة من سيرك ولا هي المرادة في قصدك إنما الخلل ما يصدر من النفس من ميل لرغباتها ونزع لشهواتها الخفية قبل الجلية وما يمليه عليك سلطان أهوائها فحذروه من الأغترار بها أو القصد نحوها أو إرادتها ( وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) فحقيقة كل شيء لا تدل إلا على الله تعالى متى علمت أن ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )

حذر المؤلف هنا من فتنة مظاهر النعيم لئلا يغتر بها السالك فيحجب بها عن شهود نور رب العالمين متى أثبتها لذاتها وفصلها عن حقيقة مصدرها وفرّق بينها وبين حضرتها ليعود النعيم عندئذ لظى جحيم وعذاب مقيم

مظاهر النعيم التي ذكرها القرآن الكريم كثيرة منها :

قوله تعالى :
( مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا  وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا  قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا  وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا  عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا  وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا )

فغاية النعيم الوصال بحضرة المنعم وما درجات الجنان إلا بحسب مراتب القرب ومشاهد العرفان فما تنعمت الأرواح بأكثر من شهوده واقترابه ولا تعذبت بأشد من وجود حجابه ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) فبعد أن ذكر هنا الحجاب ذكر ما يستوجبه من عذاب في الآية التي تليها فقال تعالى ( ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ  )

فنبهك المؤلف هنا على حقيقة من حقائق علوم الإيمان لئلاّ يكون سيرك معكوسا وسلوكك منكوسا فترحل من كون إلى كون كما قال في الحكمة ( لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى " )

إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

07 سبتمبر 2017 19:19

ما أحلى التصوف وأجمله هذه الشروح لعلوم التصوف الإسلامي هي مايحتاجه صوفية اليوم لتحقق به ظاهرا وباطنا لا ات أوضلالات وحكي الكرامات فكم أعرف ممن يرون في أنهم صوفية لاهمة لهم إلا الانشاد وكرامة فلان وعلان ، اللهم لاتبلينا بالحجب والبعد وصل اللهم على سيدنا محمد في الأولين والآخرين وسلم الى يوم الدين.
عابرسبيل
عضو نشيط
مشاركات: 44
اشترك في: 15 يوليو 2017 22:49
آخر نشاط: 21 مارس 2018 23:01
مكان: مدينة
العمر: 28
اتصال:

08 سبتمبر 2017 22:57

نعم
ما أحلى التصوف عندما يكون حقيقيا
جزاكم الله خير الجزاء على هذا الشرح و نتعطش للمزيد
نفعنا الله جميعا بهذا الخير الرباني و لا حرمنا منه ابدا
أنوار
عضو جديد
مشاركات: 11
اشترك في: 24 مايو 2017 03:33
آخر نشاط: 03 نوفمبر 2017 16:13
مكان: الدار البيضاء
العمر: 47
اتصال:

09 سبتمبر 2017 17:30

حضرني وانا أقرأ افهامكم ما ورد في صلاة الصلة المشيشية :"وزجَّ بي في بحار الأحدية ، وانشلني من أوحال التوحيد ، وأغرقني في عين بحر الوحدة ، حتى لا أرى ولا أسمعَ ولا أجد ولا أحس إلا بها" رضي الله تعالى عن سيدي ابن مشيش وسيدي أبي الحسن الشاذلي .

ورضي الله تعالى عن سيدي ابن عطاء السكندري وعنكم سيدي في هذا الإفهام.
صورة العضو الشخصية
حنان الشريف
عضو جديد
مشاركات: 10
اشترك في: 16 أغسطس 2017 17:08
آخر نشاط: 05 يونيو 2019 21:43
مكان: *
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد