رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> سلسلة شهر رمضان .. الرحمة بنزول القرآن في رمضان 8

10 يونيو 2017 02:31

سلسلة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (8).

الرحمة بنزول القرآن في رمضان:


كتب علي الصوفي:

قال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ).
فالقرآن يعني الحقيقة، والهدى هو الطريقة، والفرقان الشريعة.
وَصَف الشهر بأخصّ حقائقِه التي هي القرآن، فتعيّن فيه خروجُ الناس من أكـْدار الجِسمانية إلى لوازِم الروحانية، لذلك شرّع صومه، فكأنّه شهر شريعة وطريقة وحقيقة؛
أو تقول: شهر كمالِ الدين من حيث مقامُ الإسلام ومَقام الإيمان ومقام الإحسان، فللإسلام الرحمةُ وللإيمان المغفرة وللإحسان العتق من النار.
أو تقول: شهر التحقيق، فهو شهر الرحمة، متى علمتَ أنّ غاية التحقيق الوصولُ إلى مُعاينة الرحمة. فكلّ من لم يدلُّه تحقيقُه على عيْن الرحمة فليس هو بمُحقّق، فعلامة الرسوخ في العلم الاتِّصاف بالرحمة على نَعت الأدب الذي هو العلم؛ والرحمة قرينة العلم، متى علمت أنّ الرحمة سارِية في العلم سَرَيان الماء في عُوده، لذلك قال تعالى: ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ). فلن تستطيع تعلّم القرآن أو فَهمه أو تدبّره إلاّ في حضرة الرحمة التي هي الحضرة المحمّدية، بما أنّها حضْرة رحمة، فهو الرحمة المهداة. فإذا علمت أنّ القرآن علّمه الرحمن، فاعلم أنّ المُنزّل عليه هذا القرآن والمَرْسول به لا بدّ أن يكون من جِنسه التي هي الرحمة: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ). إذا علِمت ذلك فاعلم أيضا أنّ قراءة هذا الوجود تكون ببداية قراءة القرآن بلسان الرحمة ...
إن القرآن هو قراءة آيات الوجود في بحر الشهود.
قراءة في مستوى الاسم الجامع لكافّة الأسماء والصفات الدّال على عين الذات.
فمتى علمت أنّ الوجود وما حَواه: في باطن العرش.. أعلمك أنّه: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ). فذكر من أسمائه اسمه الرحمن الذي به علّم القرآن وبه خلق الإنسان وبه علّمه البيان.. لتعلمَ ماهِية التنزيل والتنزّل في مراتبه حيث قال لك: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ )، أي في هذا الشهر الذي هو: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ )، فكان شهر البركة.
فذكر في الآية- من حيث موضوع رمضان وأنه شهر النزول- فعلَ: ( أُنزل )، ماضٍ مبني للمجهول، بينما ذكر لك -عند تحديد زمن ليلة نزوله في هذا الشهر- فِعلَ جمع نحن للتعظيم وهو جمع الصفات: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) مبني للمعلوم؛ كما ذكر أفعال التنزيل الأخرى بنسبها المختلفة بحسب مراتب التحقيق بين جمع وإفراد ومضاعف ومخفّف.. متى علمت قوله: ( تَنْزِيل مِنْ حَكِيم حَمِيد ) فذكر ( نَزَّلَهُ ، نَزَلَ بِهِ ، ونَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ، أَنزَلَ ..الخ ). فلكلّ فعل من تلك الأفعال مناسبة من مناسبات التحقيق من حيث حضرة الرحمة وحضرة العلم وحضرة الحكمة وحضرة الحمد .. وهكذا بحسب حَضَرات جميع الأسماء، حتى تعلم أنّه ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ).
فاعلم يا أخي أنّ القرآن هو كتــاب الوجود الدالّ على حضرة الشهود.
نعود إلى قول سبحانه وتعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ )، أي جميع الناس بمختلف عوائدهم وطبائعهم وألوانهم وألسنتهم وبلدانهم وأزمانهم وصفاتهم ... إلخ، لأنّ القرآن كتاب الكائنات بأسْرها، لذا كان المرْسول به ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) أي كلّ ما سوى الله تعالى، فكان هذا المَرسول من جنس القرآن حتى قيل فيه وصفا: "كان قرآنا يمشي على رجليه." وقيل فيه: " كان خُـلقه القرآن." فلم يعرِف رسول الله صلى الله عليه وسلّم غيرَ القرآن، لذا أخبر أنّ القرآن وسنّتَه أو عَتَرته لا يفْترقان، لذا قيل له: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
( وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ): هنا ذَكر البيّنات، وهو عالَم مُتقدّم على الأمر الأوّل الذي هو مجرّد الهُدى العام للناس من حيث المعقولات، فذكر البيّنات : بيّنات الهدى وبيّنات الفرقان ... والبيّنة أمر متقدّم على مجرّد الإيمان والتصديق، بل يصِل إلى درجة الكَشف والنور والمُعاينة كما قال تعالى: ( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )، فالبيان لا يكون إلاّ للموقنين على ما قال تعالى: ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )، وكما قال موسى لفرعون يدلّه على مستويات العلم والفهم وترتيب شُعب الإيمان: ( قالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ)، فدلّه على الإيقان عند الجواب عن سؤال فرعون الباحثِ عن شهود الذات.
ثمّ قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا )، فاتّضح أن الهدى طريقٌ للتقوى، والتقوى طريق للبيان والفرقان. فالقرآن للعلم، والهدى للسّير، و الفرقان للفَصل والحُكم.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد