رياض الواصلين >> الإيمان والتوحيد >> التوحيد: الصفات الإلهية 2

20 مايو 2017 18:54

الصفات الإلهية:

لقد عرّف الباري جل وعلا البشر بذاته –سبحانه- تعريفا مؤثرا موحيا عميقا مريحا، لتكون هذه المعرفة موحية باقتضاء العبودية، منشئة لمشاعرها الخفية ومقتضياتها العملية ... ولم يكتف –سبحانه- بتقرير خلقه للكون والحياة بل عرفنا بصفاته الكاملة العلية في حدود حاجتنـا وإدراكنا البشري، وجلَّ الله سبحـانه عن أن يحيط بذاته أحد من الخلق: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).
والصفات جمع صفة، والصفة والوصف بمعنى واحد عند أهل اللغة. وأما عند المتكلمين فالوصف قول الواصف، والصفة هي المعنى القائم بالموصوف، وهو مرادنا هنا. والواجب أن نعلم إجمالا أن الله عز وجل متصف بكل صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقصان ... ثم علينا بعد ذلك أن نقف على تفصيل أهم هذه الصفات وما تستلزمه من اعتقاد ... وقد وصف سبحانه ذاتَه في القرآن الكريم بصفات كثيرة كلها تلتقي ضمن الصفات الرئيسة هذه:
1-الصفة النفسية:
وهي صفة ثبوتية يدل الوصف بها على الذات فقط دون معنى زائد عليها، فالجوهر مثلا صفة نطلقها على هذا الشيء فتدل على كونه جوهرا فقط، فهي بهذا المعنى نفسية (الجوهر عند المتكلمين هو حقيقة الشيء، بينما العرض هو معنى قائم بالجوهر، فالإنسان جوهر وضحكه أو كلامه عرض). والصفة النفسية عند الباري جل وعلا هي: صفة الوجود، لكن الوجود نوعان: وجود كامل ووجود ناقص. فوجوده سبحانه كامل بمعنى أنه موجود لذاته لا لعلة مؤثرة، ووجود غيره ناقص لأنه مستمد من الموجد له ... هذا ما عرفناه بالعقل والشرع، ولا نملك أن نذهب لأبعد من هذا فنسأل ما حقيقة الله وما معنى وجوده ؟ فهذا فوق طاقة العقل البشري، فضلا عن أنه لا يتوقف عليه شأن من شئون ديننا أو دنيانا (راجع في هذه المسألة كتابي: الغيب والعقل. دراسة في حدود المعرفة البشرية):
حقيقة المرء ليس يدركها *** فكيف كيفية الجبار في القدم
2-الصفات السلبية:
وهي كل صفة مدلولها –أو عكسها- عدم أمر لا يليق بالله سبحانه، فهي ثابتة بالسلب، فالوحدانية صفة سلبية لأن عدمها شيء لا يصح على الباري عز وجلّ، وهو التعدد؛ وهذه الصفات كثيرة الجزئيات لكثرة النقائص لكنها تندرج تحت خمس صفات:
أ-الوحدانية: فلا يماثله شيء في صفاته، ولا ازدواج في نعوته ... فليس لغيره علم كعلمه أو وجود كوجوده أو قدرة كقدرته، كما أنه ليس له –سبحانه- مثلا علمان أو قدرتان بحيث تتمم كل واحدة منهما الأخرى، لقوله تعالى: ( قل هو الله أحد). وقد أوضحت معنى الوحدانية في المقال السابق. وللمتكلمين مسالك في إثبات الصفة تراها في مواضعها.
ب-القدم: أي عدم وجود أول له سبحانه لقوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، فهو قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "كان الله ولم يكن شيء قبله". فلو لم يكن كذلك لكان قبله عدم ولاحتاج لمرجِّح يخرجه إلى الوجود، وما كان كذلك لم يكن إلهاً ... إذ هذا الموجود يحتاج بدوره إلى سابق عليه، فيستلزم ذلك فرض التسلسل. فوجب الانتهاء إلى ذات واجبة الوجود تكون علة لغيرها متصفة –لزاما- بالقدم. وها هنا شبهة تعرض لبعض الناس يحسن كشفها وهي: من خلق الله؟ سبحانه، جل وعلا. والجواب أن الذهن الإنساني يتصور من الأشياء ما يجد له مثيلا ونموذجا في حسه، فنحن بسهولة نفهم صفة العزة في ذات الله لأننا نحتفظ في ذهننا بتصورات ومعاني لها .. أما ما لم يسبق أن رأينا له نموذجا أو مقياسا فيستحيل علينا أن نتصوره أو ندركه، فهذه الروح –أو الحياة، سمِّها ما شئت- نحس بوجودها ولكنا نعجز عن إدراك كنهها. كذلك قدم الباري، فنحن نذهب إلى تخيل صورة عدم الأولية فنعجـز لأنه معنى طارئ على عقولنا وحسِّنـا .. لذا نكتفي بالإيمان بهذه الصفـة لما ثبتت ببراهين العقل والشرع. ولاحظ مثلا أن الأرقام تتوقف عند الرقم واحد، ولا يوجد شيء بعده، إنما هو الصفر، أي العدم. فالرقم "واحد: 1" هو نهاية الأعداد، وكذلك الله تعالى هو الأول الذي لا أحد قبله. (راجع: كبرى اليقينيات الكونية لسعيد رمضان البوطي).
ج-البقاء: فلا يلحق الباري عدم للآية السابقة، فوجوده خالد أبدا، ولا يشبهه أصحاب الجنة في بقائه، لأنهم كانوا في العدم ثم خلقهم ثم رجعوا إلى العدم ثم بعثهم، وهو يملك –أبدا- سلب الخلود الذي وهبهم إياه.
د-القيام بالذات: أي إنه تعالى غير مفتقر إلى موجد يوجده ولا إلى محل يقوم به، لقوله: ( الله الصمد). أي الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء ... فالله كان قبل الزمان والمكان، وهما بعض خَلْقِهِ فكيف يمكن أن يتلبس بمحل يقوم به، فلو افتقر إلى مكان –أو غيره- لكان قديما مثله –سبحانه- للملازمة. والعقل يعجز عن تصور الخالق بلا مكان، لأنه علم بالاستقراء في الموجودات الكثيرة أنها لا تخلو عن التحيّز والمكان، وهو ليس بدليل إذ لا شبه بين ذات كاملة الوجود وذوات قاصرة ناقصة. لذا روي عن الصدِّيق أبي بكر قوله: العجز عن الإدراك إدراك.
هـ-المخالفة للحوادث: أي أن الرب لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها، فهو سبحانه ليس بجرم ولا عرض ولا كلي ولا جزئي، ولا يعتوره ما يعتور المُحْدثات من عوارض نفسية وجسمية كالنوم والغفلة والجوع ... وبالجملة فكل ما تخيله عقلك عن الباري فلا يصدق عليه: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، ( ولم يكن له كفؤا أحد) أي مماثلا. لكن هناك بعض الصفات يشترك فيها الإنسان –وهو حادث- مع الله جل جلاله كصفات العلم والقدرة والبصر، فكيف نوفق بين هذا وبين مخالفته للحوادث؟ والجواب أن الإنسان يتصف بمجموعتين من الصفات: الأولى صفات هي ثمرة الحدوث والمخلوقية فيه، كالتحيز والعادات والعوارض... فهذه ينزَّه عنها الباري. والثانية هي في الحقيقة صفات إلهية، لكنه سبحانه متع الإنسان بفيوضات يسيرة جدا منها ليسخرها في خلافته، وهي مثل العلم والقدرة.. وهذه –إضافة لكونها غير ذاتية في الإنسان- لا تشترك مع صفات الله إلا في الاسم من غير الحقيقة والجوهر. وهي لا يشملها عموم النفي السابق: أي المخالفة للحوادث.
3-الصفات المعنوية:
وهي صفات قائمة بذاته تعالى وتستلزم حكما معينا. فالعلم من صفات المعاني والعليم صفة معنوية. وهي سبعة:
أ-العلم: صفة قائمة بذاته تعالى يتأتى بها كشف الأمور والإحاطة بها على ما هي عليه في الواقع أو على مستوى ما ستكون عليه في المستقبل، بحيث ينكشف المعلوم انكشافا تاما: ( إن الله بكل شيء عليم)، (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). وإيمان المسلم بها يصنع منه إنسانا رهيف الحس دائم الانتباه لمراقبة الله إيّاه ومعرفته بدخائل نفسه وأعمال جوارحه فيحرص على الطاعة ويتجنب المعصية.. ومن آثارها أيضا إيمان الإنسان بأن الخير ما شرعه الله له لأنه أعلم وأدرى: ( قل أأنتم أعلم أم الله)، مهما بدا لهذا الإنسان أن علمه المحدود يستلزم غير ذلك.. ومن آثارها تواضع العلماء المؤمنين من البشر لرسوخ اعتقادهم في قلة علمهم بالنسبة لله جل جلاله: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
ب-الإرادة: ومن شأن هذه الصفة تخصيص الممكنات ببعض ما يجوز عليها من وجود وعدم وتكيف: (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال). وقد توجد هذه الإرادة من دون تنفيذ فتسمَّى صلوحية، وقد تتعلق واقعيا بمراد من المرادات فتسمى تنجيزية. ومن أثرها على الإنسان شعوره بأنه لا شيء في الكون خارج عن إرادة الله فيجنح إلى الخضوع لها رهبا أو رغبا، فالعالم مثلا حدث بإرادة قديمة تعلقت بحدوثه في ذلك الوقت.
ج-القدرة: وهي صفة أزلية قائمة بذاته العلية يتأتى بها إيجاد كل ممكن وإعدامه وتكييفه.. والأصل فيها هو الإيمان بربوبيته تعالى العامة التامة: ( والله على كل شيء قدير)، (سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون).. والقرآن لا يكتفي بتقرير هذه الصفة الإلهية بل يسلك في توضيحها وتثبيتها في شعور المؤمن وكشف كل مظاهرها وجوانبها كل المسالك، فيلفت النظر إلى خلق السماوات والأرض: (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها؟ أإله مع الله ؟ بل هم قوم يعدلون. أمن جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ؟ أإله مع الله ؟ بل أكثرهم لا يعلمون). وطالما ذكّر الله الخَلق بخلقه الإنسان: (إنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، (وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟). والتأمل في أنواع مخلوقات الله حتى الحقيرة منها تلهم الإنسان شعورا عميقا موحيا بقدرة الباري تعالى وعظمته وجبروته بحيث لا يشِذ عن سلطانه شيء ولا يقف أمام قدرته المطلقة أمر جـليل أو حـقير.. ومن شأن الإيمان العميـق بهذه الحقيقة التورع عن معصية القـادر المقتدر سبحانه، لذا يقول تعالى عن الظالمين: (وما قدروا الله حق قدره).
د-السمع: صفة لله تعالى تتعلق بالمسموعات أو بالموجودات، فتُدرَك إدراكا تاما لا على طريق التخيل والتوهم، ولا على طريق تأثير حاسة ووصول هواء: (لمَ تعبد ما يسمع ولا يبصر). ولا نفسر السمع بالعلم لأن ألفاظ الشارع تصرف عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأفهام إذا كان يستحيل تقديرها في الموضوع، ولا استحالة في كونه سميعا بصيرا، بل يجب أن يكون كذلك.. وهذه الصفة توحي لنا بشمول العلم الإلهي ومراقبة الله تعالى لكل شيء في هذا الوجود، حتى المرأة التي اشتكت إلى رسول الله زوجها لم يغب صوتها عن سمع الله، وتحكي عائشة أنها كانت بالقرب من المرأة المشتكية ومع ذلك لم تفهم عنها مرادها، ولذا قالت: تبارك سمع الله تعالى..
هـ-البصر: صفة لله تعالى تتعلق بالمبصرات أو الموجودات بحيث تدرك تمام الإدراك، لا كما يبصر البشر.. (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). ولا نقدر أن نعرف أكثر من هذا عن هاتين الصفتين، فهذا ما ورد به النص، ويسعنا ما وسع خير القرون، فلا حاجة للخوض في مثل هذا السؤال: هل بصره سبحانه يتعلق بالمبصرات فقط أم بالموجودات؟
و-الكلام: من صفاته سبحانه، وبها أمر ونهى وأخبر، عبّر عنها نظم ما أوحاه إلى رسله كالقرآن والتوراة. وقد اتفق أهل الحق أن كلام الله صفة له غير مخلوق، لقوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليما)، (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه). غير أن بعضهم أثبت لله ما يسمى بالكلام النفسي أي المعنى القائم بالنفس والذي تعبر عنه الألفاظ، بينما قال أئمة الحديث: إنه تعالى لم يزل متكلما كما شاء وهو يتكلم بصوت يُسمع، ونوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المُعَيَّنُ قديما.
ز-الحياة: صفة أزلية لله جل وعلا: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). وهي ظاهرة لأن الموت عدم ونقص ينـزَّه الله عنهما، وقد علمنا أن ما كان كمالا للإنسان فهو لله أولى: (والله المثل الأعلى).
يتبع...
[/size]
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

20 مايو 2017 20:37

إلياس بلكا كتب:

فوجوده سبحانه كامل بمعنى أنه موجود لذاته لا لعلة مؤثرة، ووجود غيره ناقص لأنه مستمد من الموجد له ... هذا ما عرفناه بالعقل والشرع

[/size]


سيّدي هل تقصد هنا أن الله موجود "بذاته" أم "لذاته" ؟ لأن معرض الحديث عن حقيقة الوجود، فكما تفضلتم أن غيره مستمد وجوده من موجِده لكن الله سبحانه موجود لا بإيجاد موجد فهو موجود بذاته. والعفو منكم.
عبدالله حرزالله
عضو نشيط
مشاركات: 61
اشترك في: 01 مايو 2017 16:46
آخر نشاط: 22 مارس 2018 20:58
مكان: نابلس-فلسطين
العمر: 36
اتصال:

22 مايو 2017 15:42

جزاك الله خيرا على المقال ، وعلى محاضراتك المتميزة في العقيدة .
حنان المطيشي
آخر نشاط: معلومات غير متوفرة


العودة إلى “الإيمان والتوحيد”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد