رياض الواصلين >> الفقه و الأصول >> علم أصول الفقه: هندسة العقل المسلم 1

05 مايو 2017 09:49

علم أصول الفقه: هندسة العقل المسلم (1)

رغم لعلم الأصول أهمية خاصة في تاريخنا الفقهي و الفكري، فهو مرآة تعكس التشكيل الخاص للعقلية الإسلامية العلمية. وهذا مقال يتناول نشأته وظهوره وتطوره، وأهم مدارسه و رجاله ، وكيف صار التأليف فيه طوال العصور.

الفقه وأصول الفقه قبل التدوين:
في الواقع لا يمكن فصل الفقه عن أصول الفقه، فهما علمان متكاملان لم ينفصلا أبدا، لأن الفقه هو ثمرة الأصول… لقد كان في ذهن كل عالم- قبل رسالة الشافعي التي تعدّ أول تأليف في الأصول – طريقة خاصة يستنبط بها الأحكام ويُخرّج عليها الفروع وبها يقارن ويقيس و يرجح، لكن لم يكن ثمة" قانون كلي"- كما يقول الفخر الرازي- مكتوبا متداولا يرجعون إليه ويأخذون به…. فالإمام مالك بن أنس مثلا كان يولي اهتماما كبيرا لعمل أهل المدينة حتى إذا أجمعوا على شيء لم يلتفت لخبر آحاد، كما رد بعض الأحاديث على سبيل الترجيح بغيرها، وكان يرى-أيضا- أن الأمر يفيد الوجوب وأن فعله صلى الله عليه وسلم – إذا خلا من القرائن وظهر فيه معنى التعبد – كان واجب الاتباع.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سائر الفقهاء المجتهدين كالليث والأوزاعي وأبى ثور.. لذا رأى أبو بكر ابن العربي في شرحه للموطأ أن مالكا رحمه الله هو الذي مهّد الكلام في أصول الفقه.
ولقد كانت حركة الفقه الضخمة تسير في اتجاهين مختلفين، وأحيانا متناقضين، فكانت الحاجة قائمة لنوع من الحوار بين الاتجاهين أو لـ "قانون" ومقياس يرجع إليه الفقهاء حين يختلفون… فمدرسة العراق كانت تعرف بمدرسة الرأي لاعتماد فقهائها على القياس والاستحسان بشكل كثيف.. أما مدرسة أهل الحديث أو مدرسة الأثر بالحجاز فلم تكن واقعة تحت ضغط الحاجة الملحة للإفتاء، وهذا لغلبة البداوة على أهل الحجاز وبطء تطورهم المدني، فكان عامة فقههم يأخذونه من آثار كثيرة وصلتهم، سيما وأن الحجاز أرض النبوة ومهد الوحي والرسالة.

الرسالة أول مصنف في الأصول:
ولقد قدر لمحمد بن إدريس الشافعي أن يتتلمذ للمدرستين كلتيهما، فلقد اتصل بالحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة ، وبذلك حصل فقه أهل الرأي. كما درس على الإمام مالك وسمع منه الموطأ، وبذلك استطاع استيعاب فقه الفريقين ومعرفة مداركهما ومناهجهما مع لسان عربي بليغ وعقل وقّاد… ولقد كانت فرصة الشافعي مواتية حين كتب إليه المحدث عبد الرحمان بن المهدي يسأله وضع قواعد وضوابط للاستنباط و التفريع وتبيين كيفية ذلك ، فكتب في ذلك رسالته الشهيرة، تكلم فيها عن معظم مباحث الأصول فتناول الكتاب والسنة، ودافع عن الإجماع والقياس، ورد بعض الأدلة كالاستحسان.. كما تناول البيان كالظاهر والخاص والعام، و كذا اختلاف العلماء ووجوهه. وبذلك استحق الشافعي اسم "واضع علم الأصول" كما يقال عن أرسطو واضع المنطق، والخليل بن أحمد واضع علم العروض.. وليس على وجه الأرض كتاب أقدم من الرسالة في موضوعها، وعلى هذا أجمع الباحثون قديما وحديثا.

علم الأصول بعد الشافعي:
لقد ارتضى جمهور العلماء إجمالا المبادئ و القواعد التي دوّنها الشافعي في رسالته، فأصبحت محورا للدراسات الأصولية في القرنين الثالث والرابع، إما بالتأييد أو بالنقد. لكن لم تكن أكثر حصيلة القرن الثالث كتبا أصولية بالمعنى المعروف، بل رسائل وكتيبات تتناول مباحث أصولية معينة مثل : كتاب "الإجماع" و"كتاب إبطال التقليد" وكتاب "المفسر والمجمل" … كلها لداود الظاهري المتوفى 270هـ. كما كتب عيسى بن أبان الحنفي المتوفى سنة 220هـ "خبر الواحد" وكتاب "إثبات القياس"..
أما في القرن الرابع فالغالب عليه كثرة شروح الرسالة فظهرت أهمها، كشرح محمد الصيرفـي، و"شـرح أبي الوليد النيسابـوري، و شرح القفال الشاشي الكبير، وشرح أبي محمد الجويني، والد إمام الحرمين..

العصر الذهبي لأصول الفقه:
ثم إن التطور الأكبر لهذا العلم حدث بعد الشافعي على يد القاضيين: قاضي السنة أبو بكر الباقلاني المالكي، و قاضي المعتزلة عبد الجبار الهمداني. فكتب الباقلاني "التقريب والإرشاد" موسوعة في مجلدات. وألف أبو المظفر السمعاني كتاب "القواطع"، قال عنه ابن السبكي: "أنفع كتاب في الأصول الشافعية وأجله". ثم كتب الإمام أبو إسحاق الشيرازي "التبصرة في أصول الفقه" و"شرح اللمع". حتى جاء أبو الجويني إمام الحرمين فألف كتابه العظيم " البرهان في أصول الفقه "، الذي اعتنى به المالكية خاصة فشرحه خلق منهم: أبو عبد الله المازري، وأبو الحسن بن الأبياري..
كما كتب في الأصول أبو نصر أحمد بن الصباغ في "عدة العالم والطريق السالم"، وللقاضي أبي الطيب الطبري " شرح الكفاية".
أما القاضي عبد الجبار فقد كتب "العهد"، كما خصص للأصول الجزء السابع عشر من كتابه المغني. وجاء أبو الحسين البصري المعتزلي فوضع كتابه "المعتمد".
ولقد استطاع إمام الحرمين أن يؤثر في تلميذه الغزالي المتوفى سنة 505هـ فبرع في علم الأصول وصنف فيه كتبا أعلاها شأنا كتابه القوي الممتع " المستصفى من علم الأصول"، وهو من آخر ما كتب.

علم الأصول عند الفقهاء الحنفية:
كان الإمام أبو منصور الماتريدي330 هـ، أحد كبار أئمتنا، من أوائل من كتب في الأصول: "مآخذ الشرائع" و"الجدل". ولما أتى أبو زيد الدبوسي 430هـ كتب " تقويم الأدلة"، من أهم أصول الأحناف.. لكن التطور الحقيقي لعلم الأصول الحنفي حدث في القرن الخامس على يد عالم بلاد ما وراء النهر فخر الإسلام البزدوي صاحب "كنز الوصول إلى معرفة الأصول". قد لقي عناية كبيرة من علماء المذهب فكتبوا عليه عدة شروح. أيضا كتب أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي، المعروف بشمس الأئمة، "أصوله" اعتمادا على "تقويم الأدلة"، وهو أوسع عبارة وأكثر تفصيلا من كنز البزدوي. وعلى هذين الكتابين دارت دراسات الأحناف لمدة طويلة.
وبهذا يظهر أن علم الأصول كمل وانتهت مباحثه آخر القرن الرابع وطوال القرن الخامس، فصنف أهل كل مذهب أصول مذهبهم وتركوها لمن بعدهم يشرحون ويختصرون ويلخصون على طريقة الشافعية أو على طريقة الأحناف.

مناهج الكتابة الأصولية:
وقد تشعبت طرق الكاتبين في الأصول إلى طريقتين:

طريقة المتكلمين:
ورسالة الشافعي من هذا الطريق، وسميت بذلك لأن أكثر المؤلفين على هذه الطريقة من علماء الكلام فكانوا يميلون إلى تحرير المسائل وتقرير القواعد بالاستدلال العقلي، لا يلتفتون إلى الفروع الفقهية إلا للتمثيل، فهم يجردون المسائل الأصولية عن الفروع الفقهية. والمذاهب الأصولية على هذه الطريقة باستثناء المذهب الحنفي، وأهم خصائصها:
1-القواعد الأصولية تقرر وفقا للأدلة والبراهين، فهي التي تحكم الفروع وتكون أساسا لاستنباطها لا العكس .
2- كثيرا ما يلجأ الكاتبون إلى تناول مواضيع كلامية أو فلسفية في الأصول مثل التحسين والتقبيح العقليين، ووجوب شكر المنعم بالعقل أو بالشرع ، وأصل اللغات وحي أم كسب … وهذا إما تأثرا باشتغالهم بعلم الكلام، وإما لوجود علاقة ما بين القضية الكلامية وبين محل البحث الأصولي.

طريقة الحنفية:
بعد القرن الثالث أصبح لدى الأحناف تراث فقهي فروعي واسع ورثوه عن أئمتهم أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن.. فقاموا بدراستها وتأمل مناهج أئمتهم في التوصل إلى الأحكام الفقهية الجزئية، فتدرجوا من ملاحظة الفروع إلى تأصيل الأصول، حتى إذا وجدوا قاعدة توصلوا إليها تتعارض مع بعض الفروع في المذهب عمدوا إلى تعديل القاعدة لتتلاءم مع الأحكام الفرعية .. فهذه عملية عكسية، ولها فوائد، منها:
1-إنها أوفق للفقه وأمس به لكثرة الفروع والشواهد الفقهية، فهي دراسة تطبيقية لا نظرية فقط.
2- كانت هذه الطريقة سببـا لظهور مصنفات مستقلة في معظم المذاهب تتناول كيفية تخريج الفروع الفقهية على أصول المذهب مثل "تخريج الفروع على الأصول، لشهاب الدين الزنجاني، مفتاح الوصول للتلمساني المالكي.. كما ساعدت على تطور " القواعد الفقهية الكلية " التي برزت كعلم شبه مستقل في القرن الثامن . وفي المقال القادم سنتتبع تطور علم الأصول في القرن السادس فما بعده.
يتبع...
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

05 مايو 2017 17:12

جزاكم الله خيرا د/إلياس بلكا حفظكم الله
متابعون إن شاء الله
نور الصفاء
عضو نشيط
مشاركات: 115
اشترك في: 22 إبريل 2017 02:38
آخر نشاط: 13 إبريل 2020 09:23
العمر: 50
اتصال:

06 مايو 2017 23:40

جزاكم الله خيرا
حنان المطيشي
آخر نشاط: معلومات غير متوفرة

09 مايو 2017 02:55

ننتظر باقي السلسلة بفارغ الصبر
الشحبلي
آخر نشاط: معلومات غير متوفرة

09 مايو 2017 04:44

متابعين جزاكم الله خير سيدنا
alramady
آخر نشاط: معلومات غير متوفرة


العودة إلى “الفقه و الأصول”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد