رياض الواصلين >> قضايا ساخنة >> من آثار الهزيمة البحرية للحضارة الإسلامية 2

04 يونيو 2019 00:59

من آثار الهزيمة البحرية لحضارتنا (2):
ذكرنا في المقال الأول أن الهزيمة الحضارية للمسلمين بدأت من البحر قبل البر. لذلك من أسباب انهيار حضارتنا إهمال البحر. ولا أعني بهذا الناحية العسكرية خاصة، بل الموضوع برمته وبأبعاده كلها: الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية والعسكرية..
والحديث عن البحر في تاريخنا طويل متشعب الذيول، بدأه القرآن الكريم في عدد كبير من الآيات، فهو يذكر البحر والموج والزبد.. ويمتن الله على عباده بتيسير ركوب البحر لهم وجريان السفن فيها وبما فيه من غذاء.. وكيف يُنجي سبحانه في أكثر الأحيان راكبي البحر حين يحيط بهم الموج من كل مكان..
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فهو لم ير البحر في حياته، على الراجح. لكنه كان يحب لأمته أن تركب البحر، ففي الحديث الصحيح عند البخاري وغيره أنه زار أم حرام، وبعد الغذاء أخذته سِنة من النوم فرأى في منامه أن ناسا من أمته يغزون ويركبون البحر كالملوك على الأسرّة.. ثم استيقظ عليه السلام وهو يضحك فرحا بذلك.
وقد حاول معاوية بن أبي سفيان، حين كان واليا على الشام، أن يقنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بإنشاء أسطول بحري للدولة الراشدة. فأرسل عمر –ولم يكن يعرف البحر- إلى فاتح مصر عمرو بن العاص يستشيره ويسأله عن البحر، فكتب إليه مجيبا: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن خرق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق. فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا.
وحقّ لعمر أن يحتاط لدماء المسلمين، فالعرب لم تكن أمة بحرية، ولم تكن لها الخبرة الكافية لركوب البحر.
لكن هذا الوضع تغير بداية من عهد عثمان، فأصبح للدولة الإسلامية سياسة بحرية مدروسة، وتناثرت في عالم الإسلام عشرات المدن الساحلية التي تشتغل بالبحر: إما تجارة، أو صيدا، أو حربا.. وفي أقل من قرن من الزمان كانت البحرية الإسلامية تسيطر على معظم حوض البحر البيض المتوسط..
ثم أهملت الدول المتعاقبة الموضوع، خاصة بعد ضعف الدولة الفاطمية بمصر.. ودفع العالم الإسلامي أول ثمن كبير لهذا الإهمال، بتعرضه للحروب الصليبية المدمرة، حتى إن صلاح الدين الأيوبي لم يجد ما يصد به الصليبيين القادمين بحرا، فاستنجد بأهم قوة بحرية إسلامية في العالم آنذاك، وهي قوة الموحدين بالغرب الإسلامي.
الثمن الثاني الضخم الذي دفعه المسلمون لقاء ضعف العناية بالبحر هو حركة الالتفاف الأوربي على العالم الإسلامي، والتي قادتها أساسا ممالك إسبانيا والبرتغال لغرض اكتشاف طريق بحرية وتجارية لا تخضع للرقابة الإسلامية، أي لا تمر بالأراضي الإسلامية.. فقاد ذلك لما يسمى بـ: الكشوف الجغرافية، والتي يمكن اعتبارها أكبر ضربة للعالم الإسلامي في فجر العصور الحديثة.
وتوجد أثمان أخرى، لكن المقال لا يتسع لذكرها جميعا. فحسبنا التمثيل.
ثم شهدت مرحلة الدولة العثمانية صعودا في القوة البحرية الإسلامية، وكانت هي المسيطرة على البحر المتوسط لقرنين على الأقل.
وأخيرا في القرون الثلاثة المنصرمة تضاءل اهتمام العالم الإسلامي بشؤون البحر حتى كاد ينعدم. ولو أخذنا مثالا من المغرب الأقصى لوجدنا أنه في نهاية العصر الوسيط كان دائما يتعرض للغزو بحرا، لكن الدولة والمجتمع كلاهما فرّط في بناء حياة اجتماعية واقتصادية وعسكرية تهتم بالبحر. فتجد أن أقوى قبائل شمال إفريقيا وأشدها شكيمة لم تكن تشتغل بالبحر رغم قربها الشديد منه، وهي قبيلة بني ورياغل التي قادها الأمير عبد الكريم الخطابي ومعها أكثر قبائل الريف لمواجهة محتل اقتحم ديارها وفاجأها من البحر. وتظهر أهمية الأمر لو علمنا أنه كان لقبيلة صغيرة مجاورة لقبيلة بني ورياغل الكبيرة دور بحري مهم في بعض فترات تاريخ المنطقة ، وهي قبيلة بني بقيوة. فكيف لو أن الورياغليين اتجهوا إلى الاشتغال بالبحر أساسا.
والحقيقة أنه كان لملوك الدولة العلوية وعي بخطورة الموضوع، حتى في فترات ضعف المغرب الأقصى في القرن التاسع عشر. فقد كان للسلطان محمد بن عبد الله عناية بالقوة البحرية واهتمام بها، واستطاع فعلا أن يبني أسطولا من ستين قطعة بحرية مجهزة بالعتاد والرجال.
لكن أسبابا داخلية، وعوامل خارجية على رأسها ضغوط الدول الأوربية، تعاونت على الحد من هذه السياسة البحرية.. فاضطر المولى سليمان رحمه الله لحل الأسطول فعليا.
ثم نصل لعهد السلطان عبد الرحمن بن هشام الذي حاول الاهتمام بالموضوع، لكن بعد مهاجمة النمساويين لمرسى العرائش، وتدخل الإنجليز.. وأسباب أخرى متعددة لا مجال لتفصيلها هنا.. انتهى السلطان إلى الاقتناع باستحالة أن يكون للبلاد أسطول حربي حقيقي، فأمر في لحظة يأس بإغراق ما تبقى من السفن المغربية القليلة في ميناء سلا.. كأنه يئس من الموضوع وأراد نسيانه وسدّ بابه نهائيا.
ولعل من المفيد هنا أن أعرض لرأي الأستاذ المؤرخ عزيز قنجاع، فهو يرى أن بداية استعمار المغرب وانهزامه أمام الأمم الأوربية لم يكن مع معركة إيسلي التي خاضها المغرب ضد فرنسا سنة 1844، ولا مع حرب تطوان مع الإسبان.. بل هزيمة المغرب العسكرية الأولى كانت معركة العرائش، ورغم أن المغاربة تصدوا ببسالة لهذا الهجوم، إلا أن هذه الواقعة في نظر معاصري الحدث وفي نظر مثقفي القرن التاسع عشر كانت أكبر مصيبة حلت بالمغرب، إذ من نتائجها إنهاء البحرية المغربية تماما.. والتمهيد للهجوم الأجنبي.
هذا رأي، ولستُ مؤرخا لأحكم عليه بشيء، لكنه رأي جدير بالفحص والتأمل.
وبعد، فهذا –والله أعلم- بعض ما ظهر لي في هذا الموضوع الذي يحتاج لدراسات مستقلة، ولمشاركة أهل الاختصاص من المؤرخين والمهتمين.. خاصة بعد أن أخذ موضوع البحر والقوة البحرية أبعادا جديدة غير مسبوقة في التاريخ، خاصة من الناحية التقنية.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “قضايا ساخنة”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 3 زوار