رياض الواصلين >> قضايا ساخنة >> الهزيمة البحرية للحضارة الإسلامية(1): ابن خلدون

24 مايو 2019 00:37

الهزيمة البحرية للحضارة الإسلامية (1) :
ابن خلدون يتأمل تاريخنا البحري:
يوجد عامل مهم في تدهور الحضارة الإسلامية ننساه ولم ننتبه له بما يكفي: إن حضارتنا انهزمت في البحر قبل أن تنهزم في البرّ. فأحيانا يبدأ الانتصار من البحر، كما تكون الهزيمة منه أيضا. ومعارك البحر لا تقل خطورة عن معارك البر.
سأعرض لهذه الفكرة بتفصيل، لكني رأيت أن أمهد للموضوع بعرض آراء ابن خلدون في موضوع القوة البحرية في تاريخنا. فقد كتب هذا المفكر الفذ في صفحات محدودة عصارةً للتاريخ البحري الإسلامي، بما له وبما عليه، بنظرة ناقدة فاحصة. وهي من أهم ما كُـتب في المسألة، كما يرى ذلك كريستوف بيكار – المختص بالتاريخ البحري لغرب حوض البحر الأبيض المتوسط في العصر الوسيط -، بل يعتبره من أكثر ما وصلنا دقة وجمعا وتركيبا من مؤرخ عاصر بعض مراحل التاريخ البحري للعالم الإسلامي.
بحار العالم الإسلامي:
يتصل العالم الإسلامي بستة بحار، وأساس الكتلة المائية يتشكل على هيئة حرف Z اللاتيني حيث امتداد البحر المتوسط والبحر العربي والبحر الأحمر، ثم ترتبط هذه الكتلة بالمحيط الهندي في الشرق وبالأطلسي في الغرب. وهذا يؤهل المنطقة لأن تكون قوة بحرية هائلة. وكذلك كان العالم الإسلامي الوسيط، كما أوضحه ابن خلدون في مقدمته المشهورة.
بداية تأسيس البحرية الإسلامية:
يدرج ابن خلدون "قيادة الأساطيل" ضمن الوظائف السلطانية. ويشير في البداية إلى اختصاص إفريقية (أي تونس تقريبا حاليا) والمغرب بهذه الخطة، ويعلل ذلك باتصال البلاد بالبحر الرومي (أي المتوسط). إضافة إلى أن سكان سواحل هذا البحر اعتادوا ركوب البحر ومهروا فيه في الحرب والسلم.
ويرى ابن خلدون أنه لا توجد فروق بين القوة البرية والقوة البحرية، فالدولة تمر أيضا في عالم البحر بمراحل النشأة ثم الشدة ثم الضعف: في البداية بناء البحرية، وهو ما تمّ في العهد الإسلامي الأول. ثم تأتي مرحلة السيطرة الإسلامية على البحر في عهد الخلافات الكبرى الأموية والفاطمية. والمرحلة الثالثة شهدت تراجعا متواصلا في القوة البحرية للمسلمين لصالح اللاتين.
هكذا استهل ابن خلدون الفصل بالحديث عن بدايات اتصال الدولة الإسلامية بالبحر في عهد عمر ومعاوية، وكيف تردد العرب في ركوب البحر لبداوتهم. فلما استقر الملك لهم وملكوا الأمم البحرية تعلموا ركوب البحر فأنشؤوا الأساطيل والمرافئ وصاروا أمة بحرية.
ويتوقف صاحبنا عند أبرز دول الإسلام التي كانت لها قوة بحرية، خاصة بالغرب الإسلامي، وهم: العبيديون أو الفاطميون، والأغالبة بإفريقية، والأمويون بالأندلس خاصة أيام عبد الرحمن الناصر، وبالشرق يذكر الأمويين بالشام خاصة. وهذه فترة السيادة البحرية لدول الإسلام. يقول ابن خلدون: "كان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِـبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم.." وفي هذه الفترة لم يكن لأوربا إلا بعض الساحل الشمالي الشرقي.
ويمتدح ابن خلدون عمل الأمويين حين سيطروا على الإنشاءات البحرية للبيزنطيين بعكا، وأسسوا أول أسطول بأمر من معاوية. والاسم الآخر الذي يذكره هو الخليفة عبد الملك، والسياسة البحرية هنا هي تأسيس مصانع السفن. وفي الأندلس يشير ابن خلدون لعبد الرحمن الناصر الذي بنى أسطولا بحريا قويا بقاعدة ألمرية. وبالنسبة للفاطميين فإن عاصمتهم كانت قاعدة بحرية، وهي المهدية. وآخر قوة بحرية يذكرها ابن خلدون هي للموحدين بالغرب الإسلامي.
متى تكون للدولة بحرية قوية؟
وقد هدى العقل الاستقرائي والعملي الذي كان يملكه ابن خلدون.. هداه إلى أن لاحظ أن بناة القوى البحرية في حضارتنا كانوا في الغالب مؤسسي دول الخلافة. أي أن امتلاك قوة بحرية هو بالدرجة الأولى قرار سياسي بالنسبة للدول الكبيرة التي تتمتع بإمكانيات بشرية ومادية معتبرة. لذلك حين لاحظ ابن خلدون أن القوة البحرية الإسلامية في الشرق وَهَنت منذ وقت مبكر نسبيا، إذ "ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد.".. فإن علـّة فقدان السيادة البحرية عنده هي: " عدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة."
السيادة البحرية تنتقل إلى الغرب الإسلامي:
هكذا انتقلت السيادة البحرية للدولة الإسلامية من الشرق إلى الغرب، "فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك، وبقيت بإفريقية والمغرب، فصارت مختصة بها. وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل، ثابت القوة، لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة."
وهنا يشير ابن خلدون لأوج القوة البحرية الإسلامية في هذه الفترة في عهد الموحدين، خاصة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الذي "انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا من بعد، فيما عهدناه." وهذا ما يفسر استنجاد صلاح الدين الأيوبي بالبحرية الموحدية في مواجهة الصليبيين.
بعد التفوق الموحدي، جاء بنو مرين الذين كانت قوتهم البحرية أقل، لكنها حافظت على التوازن البحري مع الممالك المسيحية بحيث كانت القوتان متساويتين. " ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية، ورجع النصارى فيه إلى ديدنهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه.. وصار المسلمون فيه كالأجانب."
والأمر الآخر المهم في تفكير ابن خلدون، والذي يشير إليه بيكار، هو أنه لا يعتبر هذا التراجع بسبب تفوق شعوب جنوب أوربا المطلة على البحر وإتقانهم لركوب البحر بالفطرة، خاصة من أهل البندقية وجنوة، كما كان يُعتقد أحيانا.. فالقوة البحرية عند صاحبنا لا تختص بشعب أو بلاد معينين، بل بالدولة نفسها : هل لها سياسة بحرية أم لا، أي هل تملك إرادة بناء قوة بحرية؟ ثم هل تتوفر على الخبرة بالبحر والتي يختزنها البحارة والصانعون وسائر الرجال الذين لهم علاقة بالبحر؟ وهذا وعي متقدم بالموضوع.
الجزر وأهميتها الاستراتيجية:
كان لابن خلدون معرفة بالجزر واهتمام بها، فهو يقول مثلا في ثنايا حديثه عن البحر الرومي والشامي: "..وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية." ذلك لأن ابن خلدون يرى أن لجزر البحر المتوسط أهمية استراتيجية استثنائية، وأن فقد المسلمين لها بالتدريج ساعد كثيرا على تراجع قوتهم، فهي نوع من خط الدفاع الأول عن أراضي اليابسة. ولذلك لما سيطر المسلمون على البحر المتوسط "ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرس.." وبالمقابل حين ضعفت البحرية الإسلامية بالشرق الإسلامي، خسروا أول ما خسروا هذه الجزر، حيث " مدّ النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها." ثم حين ضعفت بحرية الغرب الإسلامي أيضا خسروا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي.
يتبع...
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “قضايا ساخنة”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد