الحروب الصليبية(6): تصفية في المشرق وانتقال للمغرب
مرسل: 19 مايو 2019 04:18
بسم الله الرحمن الرحيم.
نواصل تقديم هذه السلسلة، وكانتْ آخر حلقة هي: اضغط هنا
الحروب الصليبية: تصفية في المشرق وانتقال للمغرب (6).
فشلت الحملة الصليبية الثامنة، وكان الفشل كبيرا بحيث بدأ حكام مصر والشام سياسة تصفية الوجود الصليبي كلّه من المنطقة، لكنهم قبلوا أن يعيش الصليبيون في الشرق باعتبارهم أفرادا وأسرا، لا كأصحاب ممالك. لذا فإن بعض مسيحيي الشرق اليوم تعود أصولهم إلى بقايا الصليبيين الذين رضوا أن يعيشوا تحت الحكم الإسلامي.
وقد قاد هذه الحملة السلاطينُ الكبار لدولة المماليك: الظاهر بيبرس، ثم خليفته السلطان قلاوون، ثم الأشرف خليل .. فاستردوا بقايا الإمارات والمدن كقيصرية وصفد وطرابلس وعكا واللاذقية وإنطاكيا.. ولم يدخل القرن الثامن إلاّ وكان الشرق محررا تماما من الغزاة.
كان من أهم الدروس التي تعلمها المسلمون من هذه الحروب المُسلْسلة أهمية القوة البحرية في حماية أنفسهم. إذ كانوا أهملوا منذ نهاية الدولة العباسية البحرَ وركوبه والإعداد له، فأدوا الثمن غاليا حيث كان الهجوم الصليبي يتم برا وبحرا.
لذلك وضع السلطان برسباي خطة لاستعادة القوة البحرية. ثم وجهّها إلى الاستيلاء على جزيرتين مهمتين كانت الجيوش الصليبية تتخذها دائما منصة متقدمة للهجوم، وهما: قبرص ورودس. فنجح في استعادة قبرص، وهي الأهم، لكنه فشل في احتلال رودس، حتى جاءت الدولة العثمانية التي وضعت تحت سلطتها جزيرة رودس أيضا، واحتفظت بها حتى سنة 1912، بينما احتفظت بقبرص حتى عام 1878 حيث تنازلوا عنها لبريطانيا التي سلمتها بدورها لليونان عقب الحرب العالمية الأولى.. لذلك لا تزال مشكلة قبرص من المشكلات الدولية المزمنة إلى اليوم، بل هي منقسمة بين قبرص التركية وقبرص اليونانية..
والمقصود أن من أخطاء الحضارة الإسلامية تفريطها في امتلاك الجزر والسيطرة عليها، مما كان له بالغ الأثر في تراجع هذه الحضارة.
إذن استطاعت الدول الإسلامية الحاكمة آنذاك إخراج الصليبيين من الشرق نهائيا. ولم يعد الأوربيون إلى المنطقة إلاّ منذ أقل من قرن حين اجتاحت العالم ظاهرةُ الاستعمار الحديث.
وقد رأينا كيف انتقل الصليبيون من مهاجمة الشام وقلب المشرق.. إلى مهاجمة مصر، بسبب فشلهم في الشام ولأهمية مصر الاستراتيجية.
ثم قاد لويس التاسع –قائد الحملة الثامنة- انتقالا ثانيا لاتجاه الحروب الصليبية، وذلك حين هاجم تونس سنة 668هـ 1270م، ورسى بسفنه في قرطاجنة، لكنه اكتشف أن الدولة الحفصية قادرة على ردّه.. فكانت حملته، وهي الحملة الصليبية التاسعة، آخر الحملات الصليبية.
والحقيقة أن مغزى هذا التحوّل في اتجاه الهجمة الصليبية من الشرق إلى مصر ثم إلى تونس.. هو مؤشر على وعي جديد بأوربا بأن مهاجمتَها لقلب العالم الإسلامي خطأٌ، لأن هذا العالَم وإن ضعف أحيانا إلاّ أن قلبه ينبض ولا يتوقف عن الحياة.. لذلك انتهى مخططو أوربا إلى استحالة المشروع الصليبي باحتلال المشرق، وأن الأوْلى هو مهاجمة أطراف العالم الإسلامي، أي "الهوامش".
هكذا جاء الدوْر على الجناح الغربي لعالم الإسلام، خاصة على المغرب الأقصى والأندلس.. لذا في الواقع فإن الحروب الصليبية لم تتوقف، بل غيّرت البوصلة.. وكان الهدف واضحا ومحددا: أخذ الأندلس وتصفية الوجود العربي-الإسلامي بها.. ثم في مرحلة ثانية: مهاجمة المغرب باعتباره القوة الإسلامية الأهم بالغرب الإسلامي.
وهذه قصة أخرى من قصصنا الماضية-الحاضرة، أشير لجانب واحد فقط من جوانبها المتعددة في المقال التالي.
وتبقى فترة الحروب الصليبية مهمة جدا في تاريخ العلاقات الإسلامية-الأوربية، وهي حُبلى بالأسئلة والإشكالات التي تنتظر جهود الباحثين. لذلك نحن بحاجة إلى عدد كاف من المؤرخين، بكافة أنواعهم، يكونون متخصصين في موضوع الحروب الصليبية. وهم للأسف نادرون عندنا، أبرزهم الأستاذ سهيل زكار، وكثيرون بأمريكا وأوربا.. و"إسرائيل"، أعني بفلسطين المحتلة.
نواصل تقديم هذه السلسلة، وكانتْ آخر حلقة هي: اضغط هنا
الحروب الصليبية: تصفية في المشرق وانتقال للمغرب (6).
فشلت الحملة الصليبية الثامنة، وكان الفشل كبيرا بحيث بدأ حكام مصر والشام سياسة تصفية الوجود الصليبي كلّه من المنطقة، لكنهم قبلوا أن يعيش الصليبيون في الشرق باعتبارهم أفرادا وأسرا، لا كأصحاب ممالك. لذا فإن بعض مسيحيي الشرق اليوم تعود أصولهم إلى بقايا الصليبيين الذين رضوا أن يعيشوا تحت الحكم الإسلامي.
وقد قاد هذه الحملة السلاطينُ الكبار لدولة المماليك: الظاهر بيبرس، ثم خليفته السلطان قلاوون، ثم الأشرف خليل .. فاستردوا بقايا الإمارات والمدن كقيصرية وصفد وطرابلس وعكا واللاذقية وإنطاكيا.. ولم يدخل القرن الثامن إلاّ وكان الشرق محررا تماما من الغزاة.
كان من أهم الدروس التي تعلمها المسلمون من هذه الحروب المُسلْسلة أهمية القوة البحرية في حماية أنفسهم. إذ كانوا أهملوا منذ نهاية الدولة العباسية البحرَ وركوبه والإعداد له، فأدوا الثمن غاليا حيث كان الهجوم الصليبي يتم برا وبحرا.
لذلك وضع السلطان برسباي خطة لاستعادة القوة البحرية. ثم وجهّها إلى الاستيلاء على جزيرتين مهمتين كانت الجيوش الصليبية تتخذها دائما منصة متقدمة للهجوم، وهما: قبرص ورودس. فنجح في استعادة قبرص، وهي الأهم، لكنه فشل في احتلال رودس، حتى جاءت الدولة العثمانية التي وضعت تحت سلطتها جزيرة رودس أيضا، واحتفظت بها حتى سنة 1912، بينما احتفظت بقبرص حتى عام 1878 حيث تنازلوا عنها لبريطانيا التي سلمتها بدورها لليونان عقب الحرب العالمية الأولى.. لذلك لا تزال مشكلة قبرص من المشكلات الدولية المزمنة إلى اليوم، بل هي منقسمة بين قبرص التركية وقبرص اليونانية..
والمقصود أن من أخطاء الحضارة الإسلامية تفريطها في امتلاك الجزر والسيطرة عليها، مما كان له بالغ الأثر في تراجع هذه الحضارة.
إذن استطاعت الدول الإسلامية الحاكمة آنذاك إخراج الصليبيين من الشرق نهائيا. ولم يعد الأوربيون إلى المنطقة إلاّ منذ أقل من قرن حين اجتاحت العالم ظاهرةُ الاستعمار الحديث.
وقد رأينا كيف انتقل الصليبيون من مهاجمة الشام وقلب المشرق.. إلى مهاجمة مصر، بسبب فشلهم في الشام ولأهمية مصر الاستراتيجية.
ثم قاد لويس التاسع –قائد الحملة الثامنة- انتقالا ثانيا لاتجاه الحروب الصليبية، وذلك حين هاجم تونس سنة 668هـ 1270م، ورسى بسفنه في قرطاجنة، لكنه اكتشف أن الدولة الحفصية قادرة على ردّه.. فكانت حملته، وهي الحملة الصليبية التاسعة، آخر الحملات الصليبية.
والحقيقة أن مغزى هذا التحوّل في اتجاه الهجمة الصليبية من الشرق إلى مصر ثم إلى تونس.. هو مؤشر على وعي جديد بأوربا بأن مهاجمتَها لقلب العالم الإسلامي خطأٌ، لأن هذا العالَم وإن ضعف أحيانا إلاّ أن قلبه ينبض ولا يتوقف عن الحياة.. لذلك انتهى مخططو أوربا إلى استحالة المشروع الصليبي باحتلال المشرق، وأن الأوْلى هو مهاجمة أطراف العالم الإسلامي، أي "الهوامش".
هكذا جاء الدوْر على الجناح الغربي لعالم الإسلام، خاصة على المغرب الأقصى والأندلس.. لذا في الواقع فإن الحروب الصليبية لم تتوقف، بل غيّرت البوصلة.. وكان الهدف واضحا ومحددا: أخذ الأندلس وتصفية الوجود العربي-الإسلامي بها.. ثم في مرحلة ثانية: مهاجمة المغرب باعتباره القوة الإسلامية الأهم بالغرب الإسلامي.
وهذه قصة أخرى من قصصنا الماضية-الحاضرة، أشير لجانب واحد فقط من جوانبها المتعددة في المقال التالي.
وتبقى فترة الحروب الصليبية مهمة جدا في تاريخ العلاقات الإسلامية-الأوربية، وهي حُبلى بالأسئلة والإشكالات التي تنتظر جهود الباحثين. لذلك نحن بحاجة إلى عدد كاف من المؤرخين، بكافة أنواعهم، يكونون متخصصين في موضوع الحروب الصليبية. وهم للأسف نادرون عندنا، أبرزهم الأستاذ سهيل زكار، وكثيرون بأمريكا وأوربا.. و"إسرائيل"، أعني بفلسطين المحتلة.