رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> مقال(5): في كسر النفس وترويضها

09 يونيو 2019 23:16


ملاحظة: هذا مقال قديم نسبيا، آثرت نشره كما هو بدون أيّ تعديل. والذي أقوله اليوم لحلّ الإشكال فقهيا هو أن فعل ما يُكره أو لا يجوز لكسر النفس هو من باب الضرورات تبيح المحظورات. بمعنى إذا رأى الشيخ المربي أن نفس المريد الفلاني لن تُروض إلا بأسلوب معين، يكون هذا في الفتوى جائزا، لأنه يكون من باب الضرورة. وتزكية النفس مقصد شرعي عظيم لا يجوز إغفاله، لأنه إنقاذ لها من النار. فمتى لم نجد أسلوبا مباحا لذلك جاز استعمال أسلوب محرم أو مكروه، ما دام ضرره في الظاهر يقتصر على الشخص المعني به، أي لا يمتدّ إلى غيره. مع أن التسول بالذات يجوز أحيانا.. في تفاصيل كثيرة، وفيه بحث فقهي معروف. لذلك لا إشكال في القصص الوارد في المقال ونحوها في غيره.
انظر بعض الحيثيات في هذا الرابط :
اضغط هنا


(5)
في كسر النفس وترويضها.

وهنا مسألة أخرى تطرح سؤالا آخر غير مسألتي العلم والمال، فإن بعض الصوفية لم يكتف بالخروج من ممتلكاته حتى زاد على ذلك طلب المال من الناس، أعني أنهم لجؤوا إلى التسول. فهل يكون هذا مشروعا؟ الحقيقة هذا من موارد الخلاف بين الفقهاء والصوفية. كان ابن عجيبة التطواني رحمه الله من كبار الصالحين بالمغرب في آخر القرن التاسع عشر، وكانت له همّة الأولين من السلف فأحب أن يأخذ بمنهاج التصوف كاملا، وفعلا يذكرنا ابن عجيبة بأمثال الجنيد والداراني والمحاسبي والغزالي.. وأضرابهم من قمم التصوف الأول. وقد ترك ابن عجيبة الوظيفة المرموقة والمال الذي كان يملكه، وأمره شيخه بطرق أبواب البيوت وسؤال الناس كسرة خبز أو شربة ماء، وهو في هيئة متواضعة وثياب مهملة.. ويحكي الذين يعرفونه كيف أن بعض الناس كان يردّه، ويقولون مجنون، وبعضهم كان يبكي لحاله ويرثي له.. وبعد مدة عاد شيخه وأمره بالتوقف عن ذلك، بمعنى أن المسألة في أصلها تربوية.
لست في وارد أن أحكم على أمثال ابن عجيبة، وهو عالم وأيّ عالم، كما تشهد بذلك كتبه، كما أعتقد أنه وليّ كبير، والجميل فيه أنه كان صادقا.. صادقا بشكل عميق، وتحس بصدقه إذا قرأت كتبه أو اطلعت على حياته.. لكن بداية أقول: إن غرض ابن عجيبة غرض صحيح، فهو كان يبغي كسر نفسه، أي كسر غرورها، فابن عجيبة حين كان يتسول كان يذل هذه النفس الصعبة المراس والتي لا تنقاد لصاحبها بسهولة.. فهذه غاية سليمة، لأن أول شروط النجاة هو التحكم في النفس وأهوائها، فلابد من كسرها. المشكلة: كيف نكسر هذه النفس بين جوانحنا.. هذه النفس الخبيثة؟ في الحقيقة لا أعرف أسلوبا معينا لذلك، وأسلوب بعض الصوفية كالتسول مثلا يكسر النفس فعلا، لكن: هل هو مشروع؟ لست مطمئنا إلى هذه الطريقة، لكن يمكن أن نلاحظ وجود طرق أخرى تؤدي تقريبا المهمة نفسها، على رأسها خدمة الناس مع الصبر على أذاهم واحتساب ذلك، فخدمة الإنسان للرجل والمرأة والكبير والصغير والغني والفقير.. وتحمل أذاهم، لأنه لابد أن يصلك شيء من الأذى حتى من الناس الذين تخدمهم، هذا يساهم في ترويض النفس. فهذا الأسلوب ونحوه مما يُجوزه الفقهاء أفضل وأولى من أساليب لا يرضاها أهل الفقه، فقد كان بعض الصوفية مثلا حين يُعرف بالصلاح فيخاف على نفسه من الرياء يتعمد السرقة في السوق ليُضرب أو يشهّر به، فيقول الناس: والله فلان الذي تقولون عنه وليّ صالح هو مجرد كذاب سارق، لقد قبضنا عليه في السوق يسرق كذا وكذا.. فيطمئن الصوفي لحاله ويعيش بين الناس دون أن ينتبه إليه أحد، فكأنه يفضل أن يسقط في أعين الناس حتى لا يسقط في عين الله. وهذا غرض صحيح، لكن الوسيلة غريبة، والأوْلى الاجتهاد في البحث عن غيرها.. والتسول أخف منه لأن السرقة ممنوعة أصلا بخلاف الطلب، فقد يجوز أحيانا كما في حالة الحاجة الشديدة. وقد لقيت مرة مسلما إيطاليا، فاشتكى لي من قلة اهتمام بعض المسلمين بالنظافة، وكان يتطوع بنظافة المراحيض ودورات الوضوء، وربما كان يبغي من هذا العمل كسر النفس وتهذيبها، فقد كان فيه نفحة صوفية، ككثير من الأوربيين المسلمين... وهذا لاشك أخف كثيرا من حالة التسول لأن العمل في النظافة مشروع بل مطلوب، فإذا كان للعامل نية كسر نفسه وغرورها الفارغ انضافت جهة أخرى في المشروعية. لكن يشْكل على هذا كراهة الشريعة لبعض المهن، فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم الحجامة، رغم أنه احتجم وأدى للحجام أجرته. ولا يحضرني جواب الآن عن هذا الاعتراض، لكن أظن الحديث من باب آخر مختلف عمّا نحن فيه.
أقول هذا، ولا أخفي أنني أحببت ابن عجيبة ومازلت، وأنني تأثرت كثيرا لقصة حياته وتقلباتها وما حدث له من حوادث، كما تأثرت كثيرا بقصة تسوله وهو العالم الذي كان إلى فترة قريبة غنيا مكرما صاحب جاه ومكانة.. رحمه الله رحمة واسعة..
من جهة أخرى أظن أننا إذا طورنا العمل الاجتماعي والخيري، ونظمناه في إطار المؤسسات، وغرسنا في نفوس الجميع ثقافة الإحسان، يكون في هذا تربية وتهذيب للنفس، وفي الوقت نفسه أخذ بمفهوم فروض الكفاية.. فيشارك في هذ العمل الفقير والغني، والمهندس والطبيب، والوزير والحارس.. كل بما يتقنه، فيعمل وزير الصحة مثلا في مستشفى شعبي نصف يوم في أسبوع أو أسبوعين أو يوما في شهر.. ومجالات التطوع واسعة، كدور العجزة والأيتام وتعليم الأميين وتنظيف المدن والقرى والشواطئ.. وعلى كبار القوم البداءة بإعطاء المثال، فيتعلم الجميع خلق التواضع وخدمة الآخر.. وفكرة التطوع فكرة إسلامية أصيلة، فنحتاج لتطويرها و أيضا لإغنائها بهذا البعد التربوي الذي رامه المتصوفة، والذي ربما تطرف بعضهم في بعض أساليب تحقيقه. والله يعلم، ونحن لا نعلم، إنما نظن ظنا وما نحن بمستيقنين.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

11 يونيو 2019 16:52

مقال رائع في بابه بارك الله فيكم وجزاكم خيرا

ما دخل فيه بن عجيبة رحمه الله تعالى من ركوب الأهوال لم يدخل فيه بنفسه بل بإذن من شيخه العارف الواصل الصوفي الكامل سيدي محمد بن أحمد البوزيدي رضي الله عنه
كذلك يعضده ما وجده في قلبه من احوال ربانية لا توجد عند غير القوم من اهل الصدق تدعوه لذلك

وهكذا شان الربانيين من الذين أرادت الحضرة الإلهية استخلاصهم لها دون سائر البشر كما قال تعالى في حق سيدنا موسى عليه السلام { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي }

فتلك الصناعة تراها وتشاهدها في قصة موسى وما حصل له وجرى عليه من أنواع البلاء بين تسبب وتجريد

وعليه يجب العلم أن احوال الأكابر لا يقدر عليها الأصاغر فانظر مثلا قصة الإمام الغزالي رحمه الله في سفر تجرده لأن ركوب مثل تلك الصعاب لا يقدر عليها إلا الربانيون وهم أيضأ في ذلك ليسوا سواسية ولا على درجة واحدة بل يتفاوتون فهناك كبار الربانيين وهناك صغارهم

أما من حيث العموم فامر تزكية النفس متعين على كل مؤمن وبذلك ورد الأمر الإلهي في النص القرآني

لكن غالب لب التزكية هو كسر رئاسة النفس كونها ترنو إلى محبة التقدم والظهور وتميل إلى الثناء والممدحة بخلاف متى ذاقت حلاوة الإيمان فتصبح تميل إلى سماع الذم وتبغض سماع الثناء والمدح لأن ذلك يساعدها على مواصلة مشوار تزكيتها إلى أن تتزكى وتتنور وتصل إلى درجات الكمال الأدبي والخُلقي فتمسي تفرح بالمدح كونها تشهده من الله من باب شهودها أن ألسنة الخلق اقلام الحق ومن باب حقت له ووجبت له كما في الحديث في حق ذلك الميت لكن هذا حال من مذاقات العارفين لا المريدين الذين مازالوا في طور السير والسلوك ...

لذلك ما كتبه سيدي إلياس في مقالاته حول التصوف هو بدرجة أولى مواضيع خاصة بأهلها

فطعام الكبير لا يستسيغه الصغير
{ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِين وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ }
..
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد