رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> سلسلة شهر رمضان..(18): القرآن والقدَر وليلة القدْر

26 مايو 2019 02:46

سلسلة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (18).
القرآن والقدَر وليلة القدْر:
كتب الأستاذ: علي الصوفي

قال تعالى: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ).
فأخبرك أنّ شهر رمضان من جنس القرآن، لذا نزل فيه، لتعرف عظمة هذا الشهر الكريم بعظمة الذي نَـزل فيه وهو القرآن العظيم، ولتعلمَ يقيناً مرتبةَ وفخامة مَن أُنْـزل عليه، وهو سيّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، ولتَعتَـبر قيمة تلك الليلة وبركتَها وشرَفها التي أنزل فيها تحديدا، وهي ليلة القدر، وأنّ تلك الليلة كانتْ ليلة الاثنين، فهي الحدّ الفاصل بين يوم الأحد ويوم الاثنين، فكانت حقائقُ القرآن كلّها سارية في تلك الليلة الفاصلة.
لذا أخبرك أنّه فيها يُفرَق كلّ أمر حكيم، فأشار لك إلى ظهور الفرق في تلك الليلة، والمراد بالفرق هو الفرق بين الألوهية وبين العبودية، فهو الفرق الجمالي إن فهمت؛ وهذا من علوم القدر، لأنّ علم القدر كلّه جمالٌ في جمال، حتّى لا تختلط المعاني، لذا نعت الأمر بالحكمة في قوله ( فيها يفرق كلّ أمر حكيم.)
والحكمة تُعطي الرضا لأنّه جمال، وأنت تعلمُ أنّ الروحَ من عالم الأمر، لذا قال لك توضيحا: ( تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر)، أي في نفس تلك الليلة التي أنزل فيها القرآن؛ وإنّما أشار إلى الإذن الرباني هنا تحذيرا من الغيبة عن ذلك لِما تَـراه من عجائب تصرّف الأرواح في العالم الجَمالي من جهة، ومن جهة أخرى ذَكر الإذن لأنّ الأمر الذي تتصرّف فيه الروح في العطاء إنما كان عن إذن ربّاني كامل لا ريب فيه، لأنّه ليس في مقدور الروح التصرّف من غير هذا الإذن، لأنّها محكومة ومَغلوبة بأسْوار القدر.
لذا ذكر لك هذا في سورة القدر التي يفرق فيها كلّ أمر حكيم حتّى لا تدّعي تصرّفا للأرواح أبدا -من غير إذن إلهي- لا يخرُج أَلبتّة عن أسوار الأقدار، لذا قال العارف الجليل سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في الحكمة: (سَوابقُ الهِمم لا تخرِق أسوار الأقدار )، فكيف تخرق الهمَم الجمالَ، بل هو مَطلوبها، لذا كان هذا مسكنَ العارفين، لأنّه جَمال العبودية، إذ الأقدار مُحيطة والهمّة لا تخْرقها. واليوم قد تَجد المحتاج يتّهم واحدا من الناس في عدم قضاء حاجته فيجعله ربّا من غير شعور منه لجهله بما تعطيه حقائق التوحيد وحقائق العبودية، والذي أوقع الناس في هذا هو غيبَـتُهم عن قراءة القرآن وتدبّره، فوقعوا في الجهل.
لذا عظّم الله تعالى شأن ليلة القدر: ( وما أدراك ما ليلة القدر )، أي بحُكم نزول القرآن فيها؛ ثمّ في مقابلتها عظّم يوم الدين، وهو يوم القيامة، في قوله: (وما أدراك ما يوم الدين، ثمّ ما أدراك ما يوم الدين) لقيام القيامة فيه، فأظهر لك الحقيقتين: حقيقة الجمال الخاصّ، وهو جمال العبودية المتحلّي بأخلاق الربوبية وهو المعبّر عنه بليلة الاثنين التي وُلد فيها النبيّ صلى الله عليه وسلّم من حيث حقيقتُه الأحمدية التي هي أُمّ الحقائق، لذا كان هذا المولد عيدنـَا الثالث بعد عيد الأضحى وعيد الفطر، فالعيد الأوّل -وهو عيد الأضحى- هو يومُ الفتح الأكبر، ففيه ذَبح النـَّفس كما وُرد في قصّة إبراهيم مع ابنه، وهو المُشار إليه بالحقيقة الإلهية أو دخول الحَضرة الإلهية، فيتَحلّل مِن الإحْرام لأنّه دخل مقام الحريّة ممّا سواه، وهو اليوم الذي يرجِع من ذنوبه في عالم البقاء كيوم ولدته أمّه، وهو مقام الولادة الجديدة: " كلّ مَولود يولد على الفطرة." وهو يوم كمال الدين.
لذا لمّا قال ذلك اليهودي لسيّدنا عمر رضي الله عنه: " لقد نزلت عليكم آية معاشر المسلمين لو نزلت علينا لاتّخذنا ذلك اليوم يوم عيد،" فأجابه سيّدنا عمر: "والله إنّي أعلم تلك الآية واليومَ الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه." يشير إلى آية: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ). فهذا يهودي تنبّه إلى عظمة تلك الآية وما فيها من بشائر حتّى تمنّى أن لو نزلتْ فيهم فيَجعلون يومَها يوم عيد, أمّا بعضهم اليوم فيُـنكرون عيد المولد النبوي بدعوى أنّه بدعة، بل هو عندنا سنّة من أعظم وأكبر السنن، بل لا يوجد صحابي لا يحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف، ولكنّهم لا يعلمون، لأنّنا نَحتفل في الحقيقة بجميع هذه الحقائق لأنّ مصدرَها هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، لهذا قال سيدي أبو العبّاس المرسي رضي الله عنه: "نحن ليالينا كلّها ليلة القدر." كيف لا والرجل يقول: " لي كذا وكذا سنة ما غاب عنّي رسولُ الله طرفة عين" ؟ وكيف يَغيب وهو رسولنا: ( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم )، فمتى غابَ عنك رسولُ الله عليه الصلاة والسلام فإنّما لغَيبتك عنه وإلاّ فالشاهِد يقول :
وحيث التفتُّ رأيتُ الرسول ---- وآثارَه من هنا وهناك
بل رسول الله عليه الصلاة والسلام موجودٌ في أمّته تُعرض عليه أعمالُهم فيستغفر لهم، وهو أعرَف بأمّته أكثر من معرفة الوالد بولده. لكن بطبيعة الحال ليس وجوده الآن كوجوده الأول حين البعثة، لكنه وجود من طبيعة أخرى.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد