رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> .مقال (3): بين الخوف والرجاء

11 مايو 2019 18:37


هنا رابط مقال سابق للتعرّف على سياق السلسلة وسببها، حيث لم أعد أتبنىّ كل ما فيها، إذ كتبتها من زمان، لكن رأيتُ نشر هذه السلسلة لفتح نقاش وتصحيح ما يمكن تصحيحه، ولأنها مُعبّرة عن شريحة مهمة من أهل العلم قديما وحديثا:


اضغط هنا

بيـن الخـــــــــــــــوف والرجــــــــــــــــــاء
(2)

إلياس بلكا

التصوف من علوم الإسلام وجزء من تراث المسلمين الهائل. لكن بعض قضاياه ليست محل إجماع، والخلاف فيها قديم بين بعض الفقهاء وعلماء السلف من جهة، وبين بعض الصوفية من جهة ثانية.
ومن قضايا هذا الخلاف بين الفريقين مسألة الحب الإلهي، فبعض الصوفية يركزون جدا عليها بحيث يكاد التصوف عندهم ينحصر في حب الله تعالى، وما يستتبعه ذلك من حب نبيه عليه الصلاة والسلام. بالمقابل بعض السلفية لا يكادون يعترفون بالمحبة ولا يكادون يعرفونها، وهذا انعكس على مذاهب بعضهم في العقائد والفقه حيث يغلب على هذا البعض التشدد وسوء الظن بالخلق.
وكلا الطرفين، أو على الأصح بعض منهما، على شيء من الغلو في الموضوع:
أولا بالنسبة لبعض الصوفية الذين يحصرون معظم طريق التصوف والسلوك في المحبة، فهذا خطأ لوجوه:
الإسلام ليس عاطفة فقط، بل شعائر وأعمال وعبادات ظاهرة ظاهرية، لذلك على العبد أن يتعبد لله كما أمره، فيصلي ويصوم ويحج ويتصدق، ويحترف ويعمل.. أي يأتي بأمور الشريعة كلها، ويحترم رسومها الظاهرة. ونحن نعرف الحديث المشهور الذي يستدل به الصوفية ويحبونه: حديث الولاية، وفيه: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.. فأول الحديث القدسي هو: ما تقرّب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه. أي أن العبد يأتي بالفرائض أولا، ثم بالنوافل ثانيا، فهذا الذي يحبه الرب سبحانه. والمعروف تاريخيا أن المغالاة في طريق المحبة – مركبا على مذهب المعرفة ، وهما أصلا مذهب واحد- هو الذي أدى في فترات لاحقة إلى ظهور مذهب إسقاط التكاليف في التصوف، على اعتبار أن العبد إذا عرف ربه وأحبه أغناه ذلك عن العبادات البدنية التي تصبح مجرد تعب للجسم.
لكن من جهة أخرى يمكن أن نلاحظ على بعض السلفية أنها تعطي لمذهب سقوط التكليف في تاريخ التصوف أكثر مما يستحق، وأقول هذا لسبب بسيط، وهو أن هذا المذهب كان دوما يعيش على هامش تاريخنا، ولم يرق أبدا إلى أن يشكل تيارا داخل التصوف، أي أنه مذهب أفراد، فلا ينبغي تحميل المسألة أكثر مما تحتمل، كما لا ينبغي أن ننكر أن الغلو في مذهبي المحبة والمعرفة يمكن أن ينتج هذا الانحراف لدى بعض الناس، كما أنتج الحلول والاتحاد.
والتصوف تاريخ واسع وتراث عظيم، وآراء واجتهادات وتجارب.. لها أول وليس لها آخر. لكن وجد في التصوف اتجاه غلـّب المحبة والتعلق بها لدرجة كبيرة لا يمكن اعتبارها تتسق تماما مع بعض التفاصيل القطعية للعقيدة. وهذا من عهد رابعة العدوية رحمها الله. فهنا يغلب على الصوفي استحضار جمال الله وجلاله وجوده وعلوّه.. لدرجة أن المتأمل يفنى في هذه المعاني، فلا يستحضر غيرها. والمقصود أن المحبة حقّ لاشك فيه، لكن لا ينبغي للعبد أن ينسى أن من صفات الله تعالى أيضا: القوة والجبروت والكبرياء والعظمة والسطوة على الخلق والعزة والانتقام.. كما أشارت إلى ذلك الآية: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم.)
والغفلة عن هذا المعنى هو الذي جعل بعض الصوفية يقولون إنهم على حب الله ولو عذبهم، كما قالت رابعة: اللهم إني لا أعبدك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكنني أعبدك حباً لذاتك وعلاك، فإن شئت حرمتني من جنتك وإن شئت عذبتني بنارك.
وهؤلاء ما كان يجوز لهم أن يسألوا الله عذابه، وهم قد غفلوا عن مسألة بسيطة، وهي أنه لا أحد في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر مخلوق يمكن أن يصبر على عذاب الله أو يتحمله لحظة واحدة. فالله عظيم وقوي لا في جوده ورحمته فقط، بل أيضا في عذابه وبطشه.. فمن ذا الذي يقوم لعذاب الله ويدّعي أنه سيستمر على حال من الأحوال، ومن ذا الذي يتمنى أن يتعرض لعذاب الله إلا أن يكون لا يقدر الله حق قدره: (وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.. الآيات.) حتى ما جاء عن بعض الصالحين من الاستغراق التام في حضرة الباري، لدرجة عدم إحساسه تماما بالعالم الخارجي من حوله.. حتى هذا هو كائن ومتيسر بفضل من الله وتقوية منه سبحانه لعبده، فالإنسان أبدا تحت رحمة الله ومفتقر إليه عائذ بجنابه.. وعليه أن يخشى عذابه.
وهذا الجبل لما تجلـّى الله سبحانه له بنوره – فكيف لو تجلى له بجبروته وقهره وبطشه – ذاب ولم يستطع تحمل ذلك، وهي قصة موسى عليه السلام لما ناداه ربه إلى الجبل المقدس، فقال النبي: (قال رب أرني أنظر إليك. قال لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا، وخر موسى صعقا. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين.)
ولذلك يروى عن سمنون رضي الله عنه، وهو أحد أركان التصوف القائم على الحب حتى صار يقال له: سمنون المحب.. أنه أنشد مرّة في سكرات الحق هذا الشعر:
وليس لي سواك حـــــظ *** فكيف شئــــت فامتحنـّي
إن كان يرجو سواك قلبي *** لا نلت سؤلي ولا التمني
وبمجرد أن قال ذلك ابتلاه الله تعالى فقط بحبس البول، لا بجهنم ولا بغيرها، فأصبح يتلوى من الألم، فانتبه لخطئه وأصبح يدور على صبيان المكاتب ويقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب.
والخلاصة أن على العبد أن يراعي الحالين معا، وأن يتقلب بينهما، وهما: الخوف والرجاء. فالخوف أصله صفات العظمة والقهر، والرجاء أصله صفات المحبة والرحمة والجلال.. والعبد كما يرجو ربه ينبغي أن يخافه، وكما يحبه يجب أن يرهبه.. فالكمال هو في الجمع بينهما، وهو حال الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: إني لأتقاكم لله وأخشاكم له.. وفي حديث آخر أنه امتقع وجهه حين رأى الريح مقبلة، وقال: عذب أقوام بالريح..
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

13 مايو 2019 07:29


بارك الله فيكم أستاذ إلياس وجزاكم خيرا
استسمحكم سيدي إلياس في التعليق على مقالكم هذا وكتابة رأيي فيه مع نقل تنبيهكم المعتبر حول سلسلة مقالاتكم التي منها هذا المقال ( لم أعد أتبنىّ كل ما فيها، إذ كتبتها من زمان، ) وهذا حق منكم جزاكم الله خيرا وبارك فيكم لذلك طرحتموه للنقاش والنقد ولم تعرضوه للطباعة والنشر ..

قرأت لشيخ سلفي كتابا عنوانه فيما أظن ( غلو أهل التصوف وأهل التطرف ) أو ما يقرب من هذا العنوان يحاول فيه مؤلفه التنبيه على غلو الفريقين .. .

لكني لاحظت والله أعلم خلطا في كتابه المذكور كونه لم يميز بين تصوف ساداتنا الصوفية من مشايخ القوم ورموزه الكبار رضي الله عنهم من كمّل أولياء الله تعالى الجامعين بين الشريعة والحقيقة وبين تصوف غيرهم ممن نُسِب أو انتسب إليهم ظلما وزورا بيد أنهم كانوا في كل زمان ومكان محل انتقاد من قبل أهل الله تعالى قاطبة وذلك بتشديد النكير على ما وقعوا فيه من محاذير مع التحذير من سوء أقوالهم وفعالهم ..

أول من أنكر على أمثال هؤلاء إمام الطريقة أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى وغير واحد من صوفية سلف الأمة وعرفائها وكفى بهم مرجعا وقدوة لمن جاء من خلفهم ولنا فيما كتبه الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في صدر رسالته التي كتبها إلى جميع الصوفية في بلاد الإسلام وسارت بذكر علمها الركبان خير غنية وكفى بها حجة ناصعة في أي زمان وراية خفاقة في كل آن تبطل كل نكير على التصوف الحق والسلوك الصدق

قال رضي الله عنه في معرض ذم أحوال أقوام شانوا في زمانه التصوف وأهله

((( ثم اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
حصلت الفترة في هذه الطريقة لا بل إندرست الطريقة بالحقيقة مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء وقل الشباب الذين كان لهم بسيرهم وسنتهم اقتداء وزال الورع وطوى بساطه واشتد الطمع وقوى رباطه وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ودانوا بترك الإحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان .

ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال وادعوا أنهم تحروا من رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه وهم محو وليس الله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية واختطفوا عنهم بالكلية وزالت عنهم أحكامه للبشرية وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا بل صرفوا.

ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت ببعضه من هذه القصة وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكارغيرة على هذه الطريقة أن يذكر أهلها بسوء أو يجد مخالف لثلبهم مساغاً إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة.
ولما كنت أؤمل من مادة هذه الفترة أن تنحسم ولعل االله سبحانه يجود بلطفه في التنيه لمن حاد عن السنة المثلى في تضييع آداب هذه الطريقة.

ولما أبى الوقت إلا استصعاباً وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تمادياً فيما اعتادوه واغتراراً بما ارتادوه أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده وعلى هذا النحو سار سلفه فعلقت هذه الرسالة إليكم أكرمكم الله وذكرت فيها بعض سير شيوخ هذه الطريقة في آدابهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم بقلوهم وما أشاروا إليه من مواجيدهم وكيفية ترقيهم من بدايتهم إلى نهايتهم لتكون لمريدي هذه الطريقة قوة ومنكم لي بتصحيح شهادة ولي في نشر هذه الشكوى سلوة ومن الكريم فضلاً ومثوبة وأستعين باالله سبحانه فيما أذكره وأستكفيه وأستعصمه من الخطأ فيه
وأستغفره وأستعينه وهو بالفضل جدير وعلى ما يشاء قدير. ))).اه.


قال الإمام أبو القاسم محمد الجنيد رضي الله عنه فيما نقلوه عنه في مختلف الأمصار في جميع الأعصار ( طريقنا هذا مشيد ومقيد بالكتاب والسنة ) بمعنى لا يوجد مصدر للتصوف الحق سوى مصدر كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فكل قول أو فعل خرج عنهما صادر من أي صوفي فالتصوف بريء من ذلك
هذا تقديم ثمّ يأتي بعد هذا الطرح القويم إن شاء الله تعالى .

أولا : يتعين فهم أحوال السير ومقاماته على الوجه التام الصحيح كالحديث عن أحوال المحبة والمحبين من أهل الله تعالى إذ لا يمكن فهم حال المحب ولا ما يشعر به ويذوقه احساسا وشعورا غير من تلبس بمثل ذلك الحال واتصف به لا تنظيرا علميا أو طرحا فكريا ولا يهمنا بعد هذا فيمن يدعي تلك الأحوال وهو منها خال فذلك ديدن المغترين قالت اليهود والنصارى من قبل { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

العاطفة شعور طبع نفس الإنسان وهي قد تكون محمودة وقد تكون مذمومة بخلاف الأحوال ليست هي من العواطف النفسية التي جبل عليها طبع الإنسان نحو أخيه الإنسان من أم وأب وأخ وأخت وابن وقريب وصديق وجار ..الخ فشتان بين العواطف النفسية وبين الأحوال الربانية فالحال والعاطفة يشتركان في منفذ الشعور والإحساس بهما لكنهما يفترقان في نوع مصدر المدد وحضرته

لذلك فحمل حال محبة المحبين من أهل الله تعالى على كونه ميلا زائدا نحو الإنجرار إلى اطلاق جماح العواطف وتسيبها وهذا يتسبب في تغييب العقل وحجبه عن مراعاة الأحكام والآداب الشرعية العامة والخاصة يعد فهم خاطئ لأحوال العارفين وخلط بين الأحوال الربانية والعواطف النفسية

من العواطف النفسية ما ورد في قصة سيدنا نوح عليه السلام الذي سأل ربه في نجاة ابنه { وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ }

لذلك نهى الله تعالى عن الإنجرار وراء العواطف المذمومة لأن العاطفة طبيعة نفسية جبلة في الإنسان { لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ونحو هذا من الأمثلة كثير ...

لذا لا يمكننا القول أن أهل الله استغرقتهم محبة الله عن القيام بحقوق الأعمال الظاهرة في باب العبادات والمعاملات بل قد ورد عن غير واحد من كبار المحبين ومنهم أبي يزيد البسطامي قوله ( من رأيتموه يمشي على الماء أو يطير في الهواء فاعرضوا أفعاله على الكتاب والسنة فإن وافقت الكتاب والسنة فذلك ولي من أولياء الله وإن خالفت فاضربوا بدعواه عرض الحائط فهو زنديق )

المحبة عند القوم حال ينشأ عن طريق ذكر الله تعالى ( أهل ذكري أهل محبتي ) فيورث ذلك الذكر ذوقا ثم ينهمر شربا ثم يصير سكرا كما قالوا وصاحب السكر فانيا عن نفسه في محبة محبوبه لذلك قالوا من بعد السكر يكون الصحو وهو مقام التمكين الذي كان عليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فهم في سكر هائم مع صحو دائم لا يغلب سكرهم صحوهم فيشطحون ولا صحوهم سكرهم فيتنطعون وعلى هذا الحال سار وراثهم من بعدهم فالشرب من معين واحد لا ثاني له { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } لذلك كان لرسول الله عليه الصلاة والسلام حوض كوثر واحد وليس كواثر يسقي الناس بيده الشريفة من نفس الحوض ونفس الكأس لأن الكأس واحدة مهما تعددت ألوانها وصورها كما قيل ( الماء واحد والزهر ألوان )

لكن في بعض الأوقات قد يفيض خمر المحبة على روح وقلب الولي فلا يبقى فيه متسعا لغير حاله الذي ورد عليه فمتى نطق تكلم بلسان محبته وهو لسان يختلف عن لسان العقل والفكر { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } إذ لا يعقل في الأذهان قدرة الأبصار على النظر إلى عظمة الواحد الديان فكيف يسأل موسى شيئا يعلم يقينا أنه لا قدرة له عليه لذلك لما علمت الحضرة العلية صدور الطلب بلسان السكر من خمر المحبة التي لا تصبر عن محبوبها ولا للحظة أو لمحة لم يمتحن في ذاته وإنما رد إلى صحوه لما دك الجبل كما قال سلطان العاشقين بن الفارض
وعن مذهَبي في الحُبّ ماليَ مذهَبٌ *** وإنْ مِلْتُ يوماً عنهُ فارَقتُ ملّتي

ولوْ خطرتْ لي في سواكِ إرادة ٌ *** على خاطري سهواً قضيتُ بردَّتي

ومن ذلك لسان محبة السيدة رابعة العدوية الذي تكلمت به وهي في حال سكرها ونقلوه عنها وحق له أن ينقل حتى لا تضيع أشعار أهل الفناء في المحبة لأنها مدد رباني خالص يفقهه أهله ويذوقه أهل فنه بخلاف الذين لم تلفحهم لواعج المحبة سواء محبة الذات العلية أو محبة الذات المحمدية كما قال الإمام البوصيري مترجما عن لواعج محبته للحضرة النبوية المحمدية الشريفة :
يَا لاَئِمِي فِي الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَةً *** مِنِّي إِلَيْكَ وَلَوْ أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ

لأنه لا بد لكل محب من عذال فخرجت أشعار ومواجيد أهل الله بحسب ما فاض من قلوبهم فلم يجدوا حيلة ولا سبيلا في كتمه كما قال البوصيري رحمه الله :

أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أَنَّ الحُبَّ مُنْكَتِمٌ *** مَا بَيْنَ مُنْسَجِمٍ مِنْهُ وَمُضْطَرِمِ

ما كانت السيدة رابعة العدوية ولا غيرها مختارين في التعبير من عدمه بخصوص ما نطقوا به بلسان فنائهم في محبة محبوبهم فالأمر لا تكلف فيه ولا تصنع ولا اختيار فألسنة الأحوال الجارفة ليست كأي لسان وإلا لما قال مجنون ليلى
( هُوَ الحُبُّ لا تَخفي سَواكِنُ جِدَّهُ *** وكَيفَ وَيُبدي الدَمعُ ما كانَ خافِيا )

لذلك كثر شطحات المحبين فلا لوم عليهم ماداموا صادقين في محبتهم كون جذب المحبة شيء لا تطيقه العقول ويذهب بكل منقول ومعقول فهل رأيت سكرانا يفقه المنقول أو يسمع العَذول إنما هي واردات من الأحوال قوية تأتي وتغادر لذا قالوا أن عباراتهم تكون إما لفيضان وجد وإما قصد هداية مريد كذلك الشطح قد يكون إما بسبب ضعف المتلقي لوارد جذب المحبة أو لقوة ذلك الوارد كالسيل المنهمر الذي يغطي الآفاق

وعليه كانت جميع أقوال وأشعار السيدة رابعة العدوية وغيرها من سلاطين العشاق والمحبين مقبولة عند أهل الله ينشدونها ويتمثلون بها لأنها تعبر عما بداخلهم فيستترون بها

أما قصة سمنون المحب الذي سأل الإختبار فابتلي بحبس البول لا لكونه ادعى المحبة وهو خال منها بل له منها أوفر حظ ونصيب حتى لقب " بالمحب " وإنما أراد التعبير عن محبته من حيث الركون إلى مقام الدلال في التعبير عن وفور وكمال محبته وهذا يشعرنا أن سؤاله الإختبار نجم عن علم أكثر منه عن حال أي عن صحو أكثر منه سكر فابتلي في حينه ولم يقدر على الصبر

رغم أن أهل الكمال لا شطح لديهم غالبا وإنما غالب أصحاب الشطحات كانوا في مقام التلوين قبل تمكينهم أي قبل كمالهم لأن هناك العارف وهناك العارف الكامل أما أصحاب المشاهدات فعبروا في أشعارهم عن مشاهداتهم من حيث عالم الحقائق فلا يدخلون في صنف أصحاب الشطحات التي غالب ما تصدر من المريدين السائرين ..

أما متى صدرت من الكاملين باتفاق على كمالهم وهذا يكون في حكم الندور فيجب حملها على محامل صحيحة تليق بمعارف وصلاح من صدرت منهم وتوجيهها توجيها حسنا مقبولا , أفلح الإمام الشعراني رحمه الله في توجيه المتشابه من أقوال الأولياء العارفين ..

لذا لا علاقة بين مدعي التصوف القائل باسقاط التكاليف الشرعية والأحكام الفقهية العملية بدعوى المحبة الإلهية أو غيرهم من القائلين بالحلول والإتحاد وغير هذا من الزيغ والإلحاد الذي يخالف القرآن والسنة مخالفة صريحة فلا يجوز حمل هؤلاء على كونهم صوفية أو أنهم من غلاة الصوفية بل لا علاقة لأمثالهم بالتصوف لا من قريب ولا بعيد لذلك شدد النكير عليهم صاحب الرسالة الفتى النحرير والعارف الشهير سيدي أبو القاسم عبد الكريم القشيري رضي الله عنه كما نقلناه في أعلى الجواب

الموضوع يحتاج إلى بيان أكثر من هذا إنما فقط أردت الإشارة إلى خلط طوائف الوهابية وعدم تمييزهم بين صوفية أهل الحق وبين دعاة التصوف زورا وكذبا وبهتانا بينما طريق الله منهم براء
..
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

14 مايو 2019 23:46

بارك الله فيكم سيدي علي، وفي بيانكم..وهذا مقصودي حين نشرتُ هنا مقالي القديم.. أن يُنتقد ويُعرف ما فيه. لتعلم أيها القارئ الكريم أن أكثر كلام الناس في التصوف خطأ، أو كالخطأ، وفي أحسن الأحوال: جدّ قاصر.. وأنه لم يكن يجوز لهم الحديث فيما لا يدركون وما لا تفقهه قلوبهم.
وحين بدأتُ كتابة تلك السلسلة من المقالات تحت عنوان: "التصوف السلفي"، وأردتُ بها التقريب بين الفريقين.. سرعان ما فهمتُ -فضلا من الله ونعمة- أن الإنسان ما لم يأخذ طريق القوم بجدّ، ويسلك كما سلكوا.. فإنه لا يمكنه أن يتكلم في التصوف، بله في حقائقه العليا. تماما كما وقع للغزالي -كما يحكي في "المنقذ من الضلال"- فقد قرأ كتب القوم، ثم فهم أن طريقهم طريق ذكر ومكابدة ومشاهدة، لا قراءة صحف وأوراق.. فاعتزل واختلى.. والقصة معروفة.
لذلك توقفتُ عن الكتابة في الموضوع، ولولا أن الله تعالى أفهمني لربما وصلتُ بالمقالات إلى 100 مقالة، كما فعلتُ في موضوع التقريب بين السنة والشيعة حيث وصلت مقالاتي إلى أكثر من 80 مقالة.. لكن هذه 100 مقالة -لو قُدّرتْ- كانت ستكون أقرب إلى الخبط العشواء منها إلى العلم الصحيح. فلله الحمد والمنة.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

15 مايو 2019 07:18

إلياس بلكا كتب:...
أن الإنسان ما لم يأخذ طريق القوم بجدّ، ويسلك كما سلكوا.. فإنه لا يمكنه أن يتكلم في التصوف، بله في حقائقه العليا. تماما كما وقع للغزالي -كما يحكي في "المنقذ من الضلال"- فقد قرأ كتب القوم، ثم فهم أن طريقهم طريق ذكر ومكابدة ومشاهدة، لا قراءة صحف وأوراق.. فاعتزل واختلى.. والقصة معروفة.

جزاكم الله خيرا سيدي وبارك جهودكم في نشر العلم والثقافة الإسلامية

شجعني تعليقكم على المزيد من الإضافة خصوصا أن المقال قديم مفتوح للنقد والنقاش

لا ريب سيدي أن كثيرا من علماء المسلمين وفقهائهم ومفكري الأمة ونبغائها تكلفوا الحديث في مجال التصوف من غير دراية حقيقية به ولا تصور صحيح لمسائله كل أدلى بدلوه فيه فشرقوا وغربوا وأغلب هؤلاء العلماء خلط في مسائل السلوك كالشيخ بن تيمية رحمه الله وبعض تلامذته فدخلوا في جدال عقيم مع أئمة الصوفية وعرفائها ينطبق عليهم في هذا الوجه قوله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }

لأنك عندما تقرأ ما كتبه بن تيمية رحمه الله كمثال في نقض كثير مما ورد في الرسالة القشيرية والرد على أئمة القوم من العارفين فيها تدرك يقينا أن الرجل دخل فيما لا يعنيه ولا يقدر عليه وحشر أنفه فيما ليس من اختصاصه ولا دراية له به فضل وأضل في هذا الباب..

أما عندما قرأ الإمام الغزالي رحمه الله في كتب القوم لم يفكر في الرد عليها أوانتقادها وتحذير الناس منها والحط من شأن مؤلفيها كما فعل بن تيمية ومن سرى حاله فيه من أتباعه وهذا الفعل من الإمام الغزالي رحمه الله أكبر دليل على رجاحة عقله ووفور فهمه لمبادئ علم التصوف بمجرد القراءة في كتبهم ففهم عنهم مراداتهم وتنبه إلى مقاصدهم لأنه كان باحثا حقيقيا فحطم صنم وجود نفسه واخترق حجاب معلوماته وتجرد عنها فلم يرتضها أن تكون فيما بينه وبين ما عزم عليه من السير على نهج الطريقة حجابا يصده عن معرفة نقائص نفسه بداية ثم معرفة كمالات ربه نهاية ...

بخلاف بن تيمية الذي اعتد بفهمه واغتر بعلمه وغرق في وحل تضخم الأنا الشمولية فصالت نقاشاته وجالت في التصوف تصويبا وتخطئة ونقدا وذما لا مثيل له وجرأة غير خافية غير مسبوقة لم يدخر جهدا في سبيل تشويه صورة تصوف العارفين حتى غدا لفظ التصوف لدى أتباعه سبة

لبس الحق بالباطل وحرف الكلم عن مواضعه في موضوع التصوف خلطا و تضليلا لأنه لم يلج ميدان التصوف بروية وتعقل وتدقيق وتحقيق كما فعل أئمة الفقهاء من قبله ومن بعده كالإمام الغزالي رحمه الله وغيره من باب البحث والفهم
من هنا تدرك الفرق الشاسع في ميدان فهم التصوف بين الإمام الغزالي وبين بن تيمية رحمهما الله تعالى ...فافهم

لذلك فمسألة التقريب بين الصوفية والسلفية مسعى محمود وفكرة اصلاحية معتبرة المفترض أن يقوم بها جميع الدعاة من كلا الفريقين إذ ليس الحديث عن الفكرة والعمل على تحقيقها مذموما بل هذا أمر لا يرفضه أحد فهم مقاصد الدين وغاياته فيد الله مع الجماعة والمؤمنون إخوة بيد أن الدين مراتب ومقامات فمن جعل مراتب المتدينين مسألة أفقية يكون المؤمنون فيها سواسية بلا مراتب ولا خصوصيات علمية أو مقامات عرفانية يعد محرف لمعاني العلم والمعرفة وهذا بدوره يعد من تحريف الدين ..

لذا عندما قرأ الإمام الغزالي في كتب الصوفية علم مبادئها وفهم أشائرها واستوعب مقاصدها فكانت في حقه بابا دخل منه إلى ما صار إليه في رحلته السلوكية لتحقيق العبودية المحضة لله تعالى التي لم يستشعرها بين جوانحه وافتقدها بالرغم مما كان معه من علوم وفهوم رواية ودراية حتى ساد فقهاء زمانه وأصبح ممن يشار إليه بالبنان لدى العامة والخاصة

هذا حدث صار مع كثير من الفقهاء والعلماء أيضا منهم الإمام الشعراني نفسه وكفى به قامة علمية والإمام بن عجيبة فقيه المغرب وشيخ الإسلام في المغرب بن المبارك مؤلف كتاب الإبريز وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين حيث كلهم فهموا وأدركوا أن التصوف صحبة وخدمة ليس شقشقة باللسان أو تفصح في بيان ..

سقت المثال عن بن تيمية رحمه الله لا ازدراء له حاشا وكلا بل هو من الفقهاء الكبار بشهادة كثير من العارفين بالله من الصوفية أنفسهم وإنما لبيان قبح حشر فقهاء الظاهر أنوفهم في الحكم على التصوف ومعارفه وأحواله ومقاماته بلا علم ولا معرفة لأنه متى صدر الرد من الصوفية على عالم أو فقيه من أهل الظاهر لا يفهم منه ازدراء لذلك العالم أو التحقير من علمه أو الحط من قدره إنما لغاية دخوله فيما لا يعنيه وليس من اختصاصه ولا هو من أهله ..

لولا أن الأستاذ الفاضل كاتب المقال بارك الله فيه ذكر أنه لم يعد يتبنى كثيرا مما ورد في تلك المقالات التي كتبها قديما والتي فتح باب نقدها ومناقشتها لقلنا أنه كان يفسر التصوف بحسب ما فهمه منه كابن تيمية وغيره سيان -إلا أن بن تيمية منتقد غير معتقد بينما صاحب المقال ذهب ابريز ومحب عزيز صالح النية حامل هموم الأمة يرنو جمع الفرقاء على الدين- لا بحسب ما عليه التصوف في نفسه فلو أخذنا مثلا فقرة من فقرات المقال وناقشناها :
والمعروف تاريخيا أن المغالاة في طريق المحبة – مركبا على مذهب المعرفة ، وهما أصلا مذهب واحد- هو الذي أدى في فترات لاحقة إلى ظهور مذهب إسقاط التكاليف في التصوف، على اعتبار أن العبد إذا عرف ربه وأحبه أغناه ذلك عن العبادات البدنية التي تصبح مجرد تعب للجسم.


لا يوجد شيء في التصوف اسمه " مغالاة في طريق المحبة " ولا يهمنا بعد ذلك صنيع المنحرفين من المدعين لأحوال القوم وهم خواء لكون المحبة مقام في طريق الله لا يمكن لسالك وسائر أن يمر إلى أي مقام آخر حتى يستوفي مقامها حيث يأتي حال بداية الشوق ثم رديفه المحبة

كان عليه الصلاة والسلام يهم أن يلقي بنفسه من أعلى جبل في مكة عندما انقطع عليه الوحي بسبب غلبة حال شوقه ولواعج محبته لوصال الوحي وهذا الذي استدعى موسى طلب النظر بعد فنائه في لذة ذوق سماع الكلام الإلهي فهذه أحوال ربانية يفهمها من ذاقها لا تقاس فكرا لكنها معقولة أي يقبلها العقل ولا يرفضها بل ربما تطرب لها العقول عند سماع قصصها ..

ثم ليس ظهور مذهب إسقاط التكاليف الشرعية سببه المغالاة في المحبة -لا كلام لنا عن المدعين الذين خلطوا أحوالا نفسية وأخرى شيطانية ولبسوا على الخلق كونها من الطريق- بل المحب لمن يحب مطيع وهذا المحبوب أمر ونهى ووعد وتوعد فالمحب الحقيقي من يقف عند أمره ونهيه يرجو وعده ويخاف وعيده أما قول رابعة أو غيرها إني لا أعبدك خوفا من نارك لا يعني أنها لا تخاف من عذاب الله فهذا فهم مغلوط وإنما مرادها أنها تجاوزت وارتقت من أحكام وآداب مقام الإيمان إلى مذاقات حقائق مقام الإحسان فلا تشهد مع الله سواه

فهي لا تخشى النار لذات النار لأن النار لا تحرق بنفسها وإنما تحرق بفعل الله عندها فهي لا تخشى السبب لذات السبب فهو خطاب في مقام معيّن ومنزلة معينة وحال معيّن ولا يجوز أن يتلفظ به من لم يصل إلى تلك المنزلة من الأحوال الربانية العالية حتى لا يكون من المتألين على الله تبارك وتعالى فمقامك حيث أقامك فلا يجوز لمسلم ادعاء أحوال العارفين لئلا يبوء بالخسران المبين

إنما تخشى المسبب الذي يفعل من وراء حجاب السبب فهي تبرهن أنها تقبل من محبوبها كل فعل بها ولو عذبها أبد الأباد لفنائها عن نفسها في محبة محبوبها فتشهد كل فعل منه اختاره وأراده بها فيه قرة عين الرضى عنه متى علمت أن المحبة متبادلة ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته ) فكيف يعذبه بعد أن أصبح بصره وسمعه ويده ورجله فلو عذبه لكان عذب نفسه وهذا لا يعقل

ثم من وجه آخر أدنى منزلة من الأول كونها لا تخشى النار لأنها أصبحت نورا محضا والنور يطفئ النار لذلك تقول جهنم يوم القيامة للمؤمن وهو فوق الصراط " جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " أنظر كيف اعترفت جهنم أن النور يطفي لهيبها فكأنها بالنسبة لصاحب النور مشهد يراه من مشاهد معرفة آثار صفات الجلال الإلهي ليتعظ في مقام اليقين متى علمت أن خشية العذاب حقيقة تكون في مقام الإيقان الذي هو مشهد يوم القيامة ..{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } أنظر كيف قال { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } لتعلم أن القيامة عالمها ايقاني كل شيء فيه يقين بينما جلساء الرحمان يوم القيامة عالمهم احساني ..

لذلك تجد في النار خزنة هم خزنة جهنم لكن النار لا تحرقهم لسبب كونهم من نور والنور لا يمكن للنار أن تحرقه بل تحرق النار الظلمة كونها من جنسها ومعنى الظلمة أي كل ما يعاكس النور ويعاديه كالكفر والشرك والنفاق والمعاصي ..الخ

فكل هذا يعد ظلمة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أنظر كيف لم يقل مباشرة ( أولياؤهم الطاغوت يدخلونهم إلى النار ) بل قال تحديدا { يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } لأن الظلمات هي التي تستوجب دخول النار فلا تنفك عنها وتلتهمها لتعلق النار بعوالم معاني العبد أي تعلقها بالأعمال والقلوب للصلة الوثيقة بينهما لأن العمل الذي يكون ظاهره صالحا وباطنه مغشوشا لا يقبل فيدخل صاحبه النار

لذلك بنيت الأعمال على النية وأن نية المرء خير من عمله والنية من أعمال القلوب عليها تؤسس جميع الأعمال فصلاح الأعمال بصلاح النية وكل عمل يصدر يتصف بحال نية قلب صاحبه عند الفعل لذلك عمد علماء الإسلام إلى شرح مبحث تصحيح النية واستحضارها ... وهذا يحتاج الى تفسير حتى لا يقع المقلدون فيما وقع فيه كثير من أتباع الفقه الشافعي في هذه المسألة فدخل على بعضهم خواطر من الشيطان ووساوس في باب استحضار النية ليعسر عليهم عبادتهم لربهم رغم يسرها وسهولتها وأنه لا حرج في الدين ..

لذلك كما ورد تخرج النار إلى المحشر وتتخطف أقواما كون الظلمة مغناطيس يجلب النار ويقربها بخلاف النور فهو كالماء الذي تطفى به النار فتخمد ومن هنا ورد أنه عليه الصلاة والسلام يخرج من بقي من عصاة أمته من النار حيث يطلب من الملائكة رفع الطبق عنهم فيخرجهم منها

لذلك يكون السؤال : هل تتوقع أنه لو دخل نبي أو ولي النار هل كانت ستحرقه ؟ الجواب لا { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } أي كذلك وعلى كل من اتبع ابراهيم { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } بيد أننا لا نتحدث هنا عن أمن مكر الله واستدراجه من عدمه ..الخ فذاك موضوع مستقل لا علاقة له بما نحن بصدده

فالنار تحرق باحراقه وهو سبحانه لا يحرق أحبابه كون النار صفة من صفاته الجلالية بينما نور النبي أو الولي وكذلك نور أهل الإيمان صفة من صفاته الجمالية وقد كتب كتابا في هذا الشأن عنده فوق العرش ( إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي )
ليس في قول رابعة أي تحد للحضرة الإلهية ولا سوء أدب ولا تطاول على جلال الله وعذابه وإنما قد يصدر على ألسنة المحبين أكثر من ذلك ... متى علمت أن لسان الفرح صدر منه قول " أنت عبدي وأنا ربك " للذي وجد دابته بعد يأسه من العثور عليها وهذا شأن دنيوي فما بالك بأحوال أهل الفناء { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا }

ثم إن تفسير كلام العارفين وشطحاتهم الناتجة عن حال صادق من قبل الفقهاء والعلماء الذين لا سير لهم ولا سلوك ولا ترقي في ميدان المعارف والمنازل سيكون بداهة تفسيرا ساذجا سطحيا عاميا لا يليق بمقامات من صدر منهم ذلك الكلام ولا معارفهم عبارة عن تلميذ سنة أولى ابتدائي يناقش أطروحة دكتوراه طالب

لأنه متى ورد في المقال :
وهؤلاء ما كان يجوز لهم أن يسألوا الله عذابه، وهم قد غفلوا عن مسألة بسيطة، وهي أنه لا أحد في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر مخلوق يمكن أن يصبر على عذاب الله أو يتحمله لحظة واحدة


الشاهد :
وهم قد غفلوا عن مسألة بسيطة، وهي أنه لا أحد في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر مخلوق يمكن أن يصبر على عذاب الله أو يتحمله لحظة واحدة


أنا لا أعتقد أن سادات المحبين كالسيدة رابعة رضوان الله عليها وكبار العارفين بالله تعالى ممن جمعوا بين الشريعة والحقيقة غفلوا عن تلك المسألة التي وصفت في المقال كونها بسيطة أي يدركها كل واحد من المسلمين بداهة وفي متناول الكافة العلم بها وهذا فيه ما فيه من عدم دراية ذوقية بأحوال السائرين ومنازل السالكين ومقامات العارفين الذين ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بعد أن وزنوا الخاطر بالقسطاس وراقبوا الله في الأنفاس حتى أن أحدهم يعرف معصيته من خلق دابته معه..الخ

اللهم إلا إذا كان صاحب المقال يريد التقريب وذلك باعطاء بسطاء الفهم حق بساطة فهمهم للأمور من حيث ذكر معقولات المنطوقات تلطفا بهم ..

كلام الأكابر لا يدرك غوره إلا أمثالهم من الأكابر وإلا أتى الإنسان بغرائب العجائب وهذا ما وقع فيه بن تيمية وبن الجوزي وبن عبد الهادي وتلك الطبقة كالبقاعي وغيرهم رغم علمهم الوافر في مجال علوم الشريعة وأحكامها رحم الله جميعهم ..

لذلك قيل المتكلم في غير فنه أتى بالعجائب ..

طبعا تعليقي هذا والحق أقول لا يشمل الأستاذ إلياس لا من بعيد ولا من قريب حتى لا تظنوا أن الأستاذ غافل عما كتبته العبد الفقير ولكن كما كتبته في الأعلى هو حريص على نشر الثقافة الإسلامية عموما وخصوصا ..

شكرا لكم
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

16 مايو 2019 02:56

الحمد لله على فضله وعلى ما رزقنا..
قرأت هذه التعليقة الثانية، فوجدتها حوَتْ علوما جديدة وتنبيهات مفيدة. بارك الله فيكم أخانا علي.
وإن شاء الله تعالى أواصل نشر بقية المقالات لتكون فرصة لتصحيح كثير ممّا يقوله المتطفلون على مجال التصوف.. وصدق ابن حزم رحمه الله حين قال: أكثر الخلاف سببه كلام من لا علم له في أمور العلم، ولو سكتوا ما كان الخلاف.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد