رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> مكانة الإذن في طريق الله

04 مايو 2019 00:21

بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وآله وصحبه أجمعين

أما بعد :

تسوّر في الآونة الأخيرة كثير من مدعي الوصول والعرفان محراب المشيخة في طريق الله تعالى من غير إذن شفوي ولا كتابي من مشايخهم الذين أخذوا الطريق على أيديهم دفعهم إلى ذلك بقايا رعونات في قلوبهم كحبّ رئاسة وتقدم وشهرة وحب الدنيا عموما بشعور أو من دون شعور منهم ...

الطريق يا سادة لا يجوز لأحد مهما كانت صفته ولو كان عارفا بالله تعالى بشهادة شيخه أن يتقدم فيه لأي وظيف من وظائف التربية والإرشاد إلا بإذن صريح من شيخه الذي سلك على يديه وعرّفه بربّه فوصل إليه لأنّ كلّ شيخ مربي هو أدرى الناس بحال مريديه فالإذن لا يأتي من الخارج بل يكون متصلا بسند الشيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث الظاهر والباطن عن طريق الشيخ نفسه

أما خلاف هذا مما قد يكون وقع فهو في حكم النادر يحفظ ولا يقاس عليه فالأصل هو الإذن الصريح من الشيخ الحي فلا عبرة بعد هذا بأذون الأموات متى علمنا أن الشيطان يمكنه التمثل في المنام في صورة أي شيخ عدا الأنبياء والمرسلين عليهم السلام خصوصا سيد الوجود ومفتاح الشهود عليه الصلاة والسلام فالشيطان لا يتمثل به كما نص على ذلك كلامه صلى الله عليه وسلم في أحاديثه النبوية الشريفة

لأنّ الشيخ الكامل الوارث المحمدي الحقيقي هو باب الله تعالى وباب رسول الله عليه الصلاة والسلام فلا يأذن شيخ لمريد من مريديه بالتربية والإرشاد إلاّ بعد الإذن من الله له ورسوله عليه الصلاة والسلام كون الشيخ ترجمان الحضرة الإلهية والحضرة النبوية على حد سواء فما إذن الشيخ للمريد الوارث إلا مقدمة على الإذن من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ..

لذا لا يوجد شيء إسمه الإذن بالمنام أو أمر آخر وهو التأويل البعيد كأن يتأول المريد كلامه شيخه في هذا الخصوص لذا نصوا على الإذن الصريح الذي لا يحتمل التأويل لسد هذا الباب لكثرة تشوف النفوس وتطلعها إليه كونها مجبولة على حب الدنيا من رئاسة وظهور

سمعت مرة من المرات في زاويتنا في حياة شيخنا رضي الله عنه وكان هذا سنة 1989 فقيرا من الفقراء ممن قدمه شيخنا رضي الله عنه يقول : يا اخواني البارحة رأيت في المنام رؤيا تعرفني بخليفة مولانا الأستاذ رضي الله عنه لكني لن أقول لكم من هو ..

مر الوقت بعد ذلك إلى أن توفي شيخنا رحمه الله سنة 1994 أي بعد 5 سنوات تقريبا من ذلك الكلام الصادر من صاحب الرؤيا -رغم أن الكلام عن خليفة الشيخ وهو مازال حيا يرزق يربي المريدين ويذاكر الوافدين يعد سوء أدب-
لكن القوم لا يعلمون سريعا ما يغترون بالرؤى والمكاشفات التي قال فيها الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( إذا خالف كشفك الصحيح الكتاب والسنّة فدع الكشف جانبا واعمل بالكتاب والسنة وقل إن الله ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف )

هذه القاعدة الذهبية تدل على كمال الشيخ سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه وشدة تمسكه بالشرع المحمدي فلم يبتدع شيئا في الطريق بحجة المكاشفات أو الرؤى والمنامات لأنّ الأحكام الشرعية تقررت فلا نجاة إلا بالإعتصام بالكتاب والسنة بلا تفسق أو تزندق

إلى أن سألت عن أخبار صاحب الرؤيا بعد سنوات طويلة التي علم عن طريقها فيما يزعم إسم خليفة شيخنا رحمه الله تعالى غير أنّه تبيّن فيما بعد أن الفقير المذكور كان يقصد نفسه كونه رأى في منامه أنه خلفية مولانا الأستاذ قدس سره لذلك أبى التصريح بإسم من رآه في المنام آنذاك مع العلم أن الشخص المذكور مازال على قيد الحياة غفر الله له ولنا لكنه ولله الحمد لم يتقدم للمشيخة وما ادعاها قط وهذا من حفظ الله تعالى له فالحمد لله ..

ذكرت هذه الحادثة حتى يعلم من لا يعلم أنّ المنام لا توجد فيه أي حجة للتقدم للمشيخة بدعوى تسليك المريدين والعروج بأرواحهم إلى حضرة رب العالمين والتدرج بهم في مقامات السير ومراحل السلوك مرحلة مرحلة

أما أن يتقدم المتقدم كشيخ تبرك من غير دعوى تسليك يجمع الناس على طاعة الله وحسن عبادته والتمسك بكتاب الله تعالى وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر لا ينكره مؤمن ويفرح لفاعله كل مسلم خصوصا متى علمت واقع الزمان من كفر والحاد ومعاصي واباحية فاضحة وفوضى وفتن لا حد لها ولا عد

فمن يجمع اليوم الناس على ذكر الله تعالى وطاعته فقد أفلح فلاحا بينا لكن على شرط من غير دعوى الولاية ولا العرفان ولا التسليك لأنّ الحضرة الإلهية لا تجيز ذلك إلا بإذن ففاقد الشيء لا يعطيه وقد قال السادة ومنهم سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه ( من ادعى المشيخة كاذبا مات على سوء الخاتمة إذا لم يتب )

قد يسأل سائل :
لماذا كل هذا التشدد في وجوب شرط الإذن أليست رحمه الله واسعة ؟ الأجدر أن يوسع الصوفية على خلق الله لتكثير سواد الذاكرين والمريدين وكذلك تكثير المشايخ في طريق الله تعالى ؟

الجواب :
لم يحجر مشايخ التصوف السعي الدؤوب لتكثير سواد الذاكرين ولا جمع الناس على طاعة رب العالمين بل يدعون إلى ذلك في كل مجلس ومحفل إنما فقط خصصوا مسألة مشيخة ( السير والسلوك ) كونها تحتاج إلى إذن خاص صريح من الشيح الحي لمريده الواصل حتى لا يدعي من شاء ما يشاء

لأنّ اقتحام هذا الميدان الخطر من غير إذن صريح من شيخ كامل يعد مزلة أقدام وذلك كون الطريق مليئا بالعقارب والأفاعي لذا لا بدّ من معرفة تامة بالطريق ومراحله وعقباته ثمّ إذن خاص بتسيير المريدين فيه لأن الصوفي السالك قد يكون على معرفة بمراحل الطريق ترقى فيها ووصل لكن لا إذن لك بتسيير المريدين

نعم يوجد جمهرة غفيرة من العارفين بالله تعالى في كل زمان ومكان أما مشايخ التربية فهم قلة مقارنة بعدد أهل العرفان والولاية لذلك عليك التمييز بين العارفين من حيث كونهم أولياء لله تعالى وبين العارفين من أولياء الله تعالى من حيث كونهم مقامين في وظيف التربية والإرشاد
كل مؤمن ومسلم خاصة العلماء والفقهاء والوعاظ والقصاص والصالحين جميعا لهم الإذن العام بالدعوة إلى دين الله تعالى أما مشايخ التربية فهم يدخلون السالكين إلى حضرة الله تعالى متى علمت أن الأذون مرتبتان :

- الإذن العام : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }
لأن التبشير والنذارة أي الترغيب والترهيب فيهما الإذن العام لسائر الأمة المحمدية فكن داعيا كما شئت في مجال الترغيب والترهيب وكفى بهما منزلة عالية فالدال على الخير كفاعله وقد ورد في الحديث ( بلغوا عني ولو آية )

- الإذن الخاص : { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا }
ما قال هنا ( وداعيا إلى الله وسراجا منيرا ) بل لو تلاحظ قوله { بِإِذْنِهِ } أي داعيا إليه بإذنه فخرج موضوع الدعوة إليه من غير إذنه

فالعبد عليه أن يميّز بين أمرين :
الأول البحث عن أهل الله والعارفين عامة لأنّ هناك من المسلمين من يكون شغفه بمحبة أهل الولاية فتجده يبحث عن العارفين في كل بلاد تلك رغبته
أما الأمرالثاني البحث عن المشايخ المأذونين ليأخذ على ايديهم الطريق ويدخل تحت حكمهم خلال سيره ليعرفوه بربه
فليس كل ولي وعارف يكون مأذونا بالتربية والإرشاد

نعم يوجد للأولياء مراتب ومقامات وقد تجد وليا من أولياء الله ليست وظيفته التربية والإرشاد يكون أعلى مقاما عند الله تعالى من ولي من عامة الأولياء تكون وظيفته التربية والإرشاد أعلمتك بهذا حتى لا تخلط بين وظيف الإرشاد من حيث هي وظيفة ربانية يأذن الله تعالى بها لمن يعلم فيهم الأهلية لذلك { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وبين مراتب ومقامات أهل الولاية فلا يدخل هذا في هذا ..

كما لا ننسى بيان أن الولي قد يكون جامعا بين المقامات العالية وبين وظيفة الإرشاد في نفس الوقت كالقطب الفرد الغوث الجامع سيدي أبي الحسن الشاذلي فقد كان قطبا وغوثا وفي نفس الوقت شيخا مربيا مسلكا وكالقطب الغوث سيدي عبد القادر وغيرهما كسيدي أحمد التيجاني رضي الله عنهم وغيره كثير

كي لا تظن أن كل شيخ مربي هو من عامة أهل الولاية بل قد يكون من عامة الأولياء وقد يكون من أصحاب الرتب والمقامات أي من خاصة الأولياء لكن كل هذا لا علاقة للمريد الصادق به فلا تعنيه تلك المقامات في شيء ولا تتشوف إليها نفسه ولو بالتشوف إلى منزلة شيخه ومقامه لأنه لو تشوف إلى معرفة مقام شيخه فما خرج من التشوف إلى المقامات ولو في غيره ..

فقط على المريد أن يجعل همته في العثور على شيخ واصل ماّذون بالتربية والإرشاد سواء أكان من عامة الأولياء أم من خاصة أهل الولاية لأنّ بغيته يمكن تحصيلها عن طريق أي ولي سواء كان قطبا غوثا أو كان وليا من عامة الأولياء لا يهم بل قد يتخرج أصحاب الرتب والمقامات من خاصة الأولياء على أيدي مشايخ تربية من عامة الأولياء ..

أما الذي يبحث طوال اليوم والساعة كيف يكون قطبا وينال الغوثية وتتشوف نفسه إلى تلك المنازل والرتب بسبب نظره في كتب القوم أو من أي طريق آخر فهو عابد هواه يسير سيرا نفسيا إلى مولاه بل كن عبدا لله في كل حالة ودر مع الحق أينما دار فلا ترضى لنفسك أن تكون عبد المقامات بل كن عبدا لرب الأرضين والسماوات

{ وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

04 مايو 2019 02:11

يكتب بماء الذهب..
رضي الله عنكم سيدي.
ماهر الشاذلي
عضو جديد
مشاركات: 9
اشترك في: 22 إبريل 2019 13:45
آخر نشاط: 01 يناير 1970 01:00
مكان: السعودية
العمر: 55
اتصال:

04 مايو 2019 23:20

بارك الله فيكم أخانا الفاضل.
عندي سؤال هنا. عرفنا الآن قيمة الإذن الخاص في طريق السلوك، وأنه شرط للمشيخة، أي لابد للشيخ الذي يتصدّى لإرشاد المريدين وتسليكهم من أن يكون بنفسه مأذونا في ذلك.
السؤال أنه يظهر من خلال الاستقراء والتتبّع وجود عدد مهم من شيوخ التربية في كل الأعصار، ويكونون مأذونين، لكن مريديهم لا يتجاوزون مرحلة الوصول في الطريق.. أي أنهم يسلكون فعلا على يد هؤلاء الشيوخ لكن كأن سيرهم يتوقـّف عند بدايات الفتح.. ويقول بعض الراسخين في هذا العلم: إن بعض هؤلاء الشيوخ أنفسهم لا يزالون في البدايات. فهل هذا ممكن؟ وإذا صحّ فمعناه أنه لا يكفي الإذن.
هؤلاء الشيوخ صادقون فعلا، وأخذوا الإذن عن شيوخهم فعلا.. لكنهم لا يسلِّكون الناس السلوك الكامل.. والمريدون لا يشعرون بذلك، بل الشيوخ أنفسهم لا يعرفون ذلك. أما الشيوخ الراحلون الذين آذنوهم فقد كانت لهم اعتبارات مختلفة في ذلك، أعني مع علمهم بنقص المأذونين، كأن يلحّ عليه بعضهم إلحاحا كبيرا.. أو كأن يحرصون على نشر الطريق ولو على ضعف، فهو خير من لا شيء.. أو كأن يتوقع من المأذون أن يترقى، فإذا به لا يفعل.. أو.. أو.. والشيخ العلاوي مثلا أذن لكثيرين، يُقال أربعين رجلا. فالظاهر أنهم يسلكون كلهم بنفس الدرجة.
إذا صحّ هذا فيحتاج المُريد إلى علامة أخرى زيادة على توفـّر الشيخ على الإذن.. أي يحتاج إلى شيخ كامل يأخذ به إلى النهاية.. أم إن سير المريد حين يُفتح عليه يسير لوحده أي مستقلا عن الشيخ، وهو المفهوم من قولكم: إن الولي من عامة الأولياء قادر على التسليك ما دام مأذونا.
أم إن الأمر يتوقف على اجتهاد المريد.. لا علاقة للشيخ بذلك. بمعنى أن الاستمرار في السير والترقّي شأنُ المريد بنسبة 90 في المائة إن جاز التعبير.
والله أعلم، كما ترونَ أستاذنا علي بوضوح أنني لا أفقه من هذه المسألة شيئا، فاشتبهتْ عليّ. وجزاكم الله خيرا.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

06 مايو 2019 04:09

إلياس بلكا كتب:...
السؤال أنه يظهر من خلال الاستقراء والتتبّع وجود عدد مهم من شيوخ التربية في كل الأعصار، ويكونون مأذونين، لكن مريديهم لا يتجاوزون مرحلة الوصول في الطريق.. أي أنهم يسلكون فعلا على يد هؤلاء الشيوخ لكن كأن سيرهم يتوقـّف عند بدايات الفتح.. ويقول بعض الراسخين في هذا العلم: إن بعض هؤلاء الشيوخ أنفسهم لا يزالون في البدايات. فهل هذا ممكن؟ وإذا صحّ فمعناه أنه لا يكفي الإذن.


أهلا بكم أستاذ إلياس حياكم الله تعالى

بداية لا بد من هذا التقديم الوجيز تتخلله بعض الأجوبة الضرورية

اعلم سيدي أن شيوخ التربية من أهل الإذن الصريح الحقيقي لا يخلو منهم زمان ولا مكان في كل وقت وآن ليس الخلل في عدم وجودهم كما يظن الغافلون وإنما الخلل في قلة الصدق في طلبهم والبحث عنهم لذا قالوا ( من بحث عن شيخ وارث بصدق وجده أقرب إليه من نفسه )

بالنسبة للنقطة الأولى الجواب عليها ذكره سيدي العارف الكامل الشيخ محمد المدني شيخ شيخنا رضي الله عنهما في رسالته الجامعة لشيخنا التي أجازه فيها بالتربية والإرشاد كتابيا ما نصه :

( ... ثم ما يدخل من الفشل والكسل على أفراد المنتسبين فلا مدخل للشيخ فيه إنّما عليه التذكير بلا انفكاك وما عليه من هداية القوم شئ واقرأ إن شئت قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام { فذكّر إنّما أنت مذكّر } وقوله تعالى { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } فما المذاكرة من المرشدين إلاّ غيث للقلوب الطاهرة فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها وعلى القلوب المريضة فترتدّ بعدما تبين لها الهدى والله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء لا يسأل عمّا يفعل نسأله تعالى أن يوفقنا لصالح القول والعمل ويحفظنا من الزلل... ) اه

وعليه فلا يتحمل الأساتذة فشل مريديهم أو توقفهم عن السير أو مرورهم بحالات من الضعف أو الفترة لأن أشياخ التربية مقامون في ميدان التذكير والإرشاد لا في ميدان النفع والضر بحسب اختيارهم أوالعطاء والمنع فليس أمر السير بأيديهم بل هم دعاة إذ لو كان الأمر بأيديهم لهدى سيدنا نوح عليه السلام ابنه الذي مات كافرا وكذلك امرأته ولهدى سيدنا ابراهيم عليه السلام أباه آزر الذي عاند وتكبر وكذلك سيدنا لوط عليه السلام لأن القرابة أولى الناس بكل داعية لقوله تعالى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ }

ورد كما تعلم أن هناك من الأنبياء يوم القيامة من يقدم وليس معه من الأتباع أحد كما ورد في الحديث (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد ) فلا يعني أن ذلك النبي الذي ليس معه أحد غير مؤهل أو غير كامل في عرفانه بالله تعالى أو ناقص في مقام نبوته ومشيخته ودعوته بل هذا سيدنا يونس بن متى عليه السلام الذي صار فيه ما أخبرنا الله تعالى به عندما ترك قومه إنما تركهم لكونهم لم يؤمنوا فعاتبه ربه على ذلك
بل هذا سيدنا نوح دعا قومه قرونا وآمادا بعيدة لكن في الأخير ما آمن معه إلا قليل وسعتهم سفينته لقلتهم ؟ { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ }

الأمر الأول الذي يجب أن يعلم :
لا يتحمل الشيوخ الكاملين فشل مريديهم لأنه على قدر طلب المريد يحصل له المزيد لذا قيل في الحكمة ( على قدر الإستعداد يأتي الإمداد ) لذلك تجد الشيخ واحدا بينما نوال المريدين منه ليس بقدر واحد
سمعت من ثقات أن هناك من تلاميذ شيخ شيخنا سيدي محمد المداني نال من شيخه ما لم ينله غيره من المعارف والتحقيق قال تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }

لتمام فهم الأمر هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الرضوان كانوا في خدمة الحضرة النبوية طوال حياته في الدنيا لكنهم لم يحضوا كلهم بالعرفان الكبير بالله تعالى على نعت الشهود والعيان بل منهم العارف والمحجوب وقد قيل أن عدد العارفين منهم على زمن رسول الله ممن فتح عليه بالفتح الكبير عدد قليل مقارنة بالأعداد الهائلة التي دخلت في دين الله أفواجا

منهم المفتوح عليه في معرفة الحضرة الإلهية وأسرارها ومنهم في معرفة الحضرة المحمدية وأنوارها وهناك أهل حجاب لم يلجوا مقامات اليقين ولا الكشف فضلا عن العرفان والفتح الكبير لكن لهم جميعا فضل الصحبة الذي لا يعادله فضل وبذلك سادوا الأمة والعالم فكانوا عدولا رضي الله عنهم بلغوا لنا الدين وأوصلوه للعالمين جزاهم الله عنا وجازى التابعين وتابعيهم وكل من سار على هداهم إلى يوم الدين من المجاهدين وأئمة الدين والدعاة وكل من خدم شرع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خيرا كثيرا

فلا يتحمل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ورثته من الدعاة الصادقين مسؤولية كل من لم يفلح في طريق الله من المسلمين ولم يفتح عليه بالفتح الكبير أو من بقي حبيس الحجاب

ثمّ ليس بالضرورة أن يعم الفتح الكبير الخاص بالأولياء جميع المنتسبين من المريدين لأن الفتح االرباني يؤتيه الله من يشاء من عباده ليس بيد مرشد من نبي أو ولي { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } لذلك قال في الحكمة ( سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار ) إذ لو كان شأن الهداية بيد الرسل والأنبياء وورثتهم من الأولياء لهدوا الناس جميعا لأنها غايتهم المنشودة فما أرسلوا إلا لهداية الناس لذا بذلوا النفيس والغالي في سبيل نجاح دعوتهم وفلاح ارشادهم

شأن الهداية كله بيد الله تعالى { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } لأن من أسمائه الحسنى سبحانه " الهادي " وقد بين ذلك في الحديث القدسي فيما رواه عن ربه ( يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم )
لذا أخوف ما يخاف منه الراسخون في العلم هو الزيغ بعد الهدى والسلب بعد العطاء { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا }
وهنا يوجد باب في العلم هو بيان معنى الإيمان ومعنى الكفر ومعنى الهدى ومعنى الضلال لأن الهدى يضادده الضلال كما ضادد الإيمان الكفر والحق الباطل والعلم الجهل والنور الظلمة وهكذا ... فهي حضرات ..

كتبت هذا كخلاصة في المقدمة لبيان أصول الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه الحنيف ثمّ يأتي الجواب بعد هذا على نقاط مجملها :

- بيان أصناف مشايخ السلوك ومراتبهم


- بيان حقيقة الشيخ الكامل وهو الوارث المحمدي

- بيان منازل أرواح المؤمنين ومراتب قلوبهم من حيث الإستعداد والقابلية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما معناه ( أدركت يقينا أني لن أسبق أبا بكر الصديق ) لأن البشر لهم قابلية واستعداد متنوع فليسوا سواسية ويعود هذا إلى حجم الأرواح من حيث عظمتها أو صغرها وكذلك حالها وما يتعلق بشؤونها { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً } لذلك تجد أولياء كبار وآخرين صغار ...

من أهل الولاية الكبار أصحاب الكهف المقول فيهم { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } بينما من الأولياء الصغار من يقولون وهم في أرض المحشر يوم القيامة كما ورد في الحديث ( فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعود بالله منك ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقولون أنت ربنا .. )

- بيان استعداد المريدين وأن أصنافهم ثلاثة تجدهم في زاوية كل شيخ ومن أتباعه : عوام المريدين وخواصهم وخاصة خاصتهم وعلى هذا الترتيب كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام فمنهم عامة الصحابة ومنهم خواصهم ومنهم خاصة خواصهم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم من الرجال والنساء ..

- بيان فهم السير والسلوك قبل كل شيء ...

الخ مما يبين تلك المسائل .. والله تعالى أعلم
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

07 مايو 2019 00:38

لله دركم سيدي
بانتظار التتمة بفارغ الصبر.
ماهر الشاذلي
عضو جديد
مشاركات: 9
اشترك في: 22 إبريل 2019 13:45
آخر نشاط: 01 يناير 1970 01:00
مكان: السعودية
العمر: 55
اتصال:

07 مايو 2019 09:35


- بيان أصناف مشايخ السلوك ومراتبهم

في داخل دائرة مشيخة التصوف من أهل الإذن الصريح ينقسم المشايخ من أهل الإذن بالإرشاد إلى :
- صنف أول : عارفون بالله في مقام الحقيقة المحمدية أي مفتوح عليهم في أنوار الحقيقة المحمدية فهم أصحاب أنوار
- صنف ثان : عارفون بالله في مقام الحضرة الإلهية أي مفتوح عليهم بالفتح الكبير فهم أهل أسرار وهؤلاء من ينطلق عليهم وصف العرفان حقيقة بخلاف الصنف الأول فهم وإن كانوا على هدى ونور فهم لم يصلوا إلى عالم المشاهدات وإنما غاية حدود أنوارهم عالم المكاشفات وهي مرحلة من مراحل الطريق وليست كل الطريق

قال تعالى في ذكر الجمع على الحقيقة المحمدية وبيان أنوارها { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
ما قال هنا ( يا أيها الناس صلوا عليه وسلموا تسليما ) بل خصّص الأمر وأوقفه على المؤمنين دون سائر الناس لأنه لا يتسنى ولوج عالم الإيقان من غير وجود ايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إذ كيف يصح السير والسلوك ونوال المعارف كالمكاشفات والمشاهدات من غير تقدم ايمان ؟ هذا لا يتصور في البال لذلك لما سأل فرعون الولوج إلى عالم المشاهدات في قوله { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } رده سيدنا موسى عليه السلام إلى استشعار عوالم الإيقان قبل البحث عن الوصول إلى عالم المشاهدة وذلك في قوله { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ }

في هذا القول من موسى بيان أيضا كون عالم الإيقان مقدورا على الوصول إليه من طرف كل مؤمن متى حسنت أفعاله وكمل ايمانه وفيه اشارة إلى كون عالم المشاهدة غير معطى لكل أحد لذلك لم يكلف الله تعالى عباده أن يكونوا جميعا من أهل المشاهدة والعرفان بل رضي منهم أن يكونوا من أهل الإيمان والإيقان لأن مقام الإيمان متاح لكل أحد من حيث أن من أسمائه الحسنى " المؤمن " أي المؤمن بنفسه سبحانه

بخلاف الكفر فلا تجد ضمن أسمائه الحسنى إسم " الكافر " أو " الظالم " أو " الضال " أي في نفسه لذلك حرم سبحانه الظلم ونهى عن الكفر والضلال { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }

لذا كان مطلب الحضرة الإلهية من الخلق الإيمان بها وعبادتها فهذا فرض لازم على كل مكلف إذ لا يعقل أن يتدنى العبد من عالم اقراره بتوحيد الله في عالم الأرواح وهو عالم مشاهدة { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ } إلى وحل الكفر مرة واحدة

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } لأن مقام الصلاة والسلام عليه غير معطى لكل أحد من الناس بل فقط للمؤمنين وفي هذا اشارة إلى كونه مقاما عزيزا عاليا وأيضا الإشارة إلى منافع الصلاة والسلام على النبي السلوكية التي يعود على العبد نفعها

لنعلم أن مقامات الدين وأركانه يفضي بعضها إلى بعض كما قال شيخنا اسماعيل رحمه الله ( الإيمان يولد الإيقان والإيقان يولد الإحسان ...)
أي أن الترقي تفضي مراحله إلى بعضها البعض وفي هذا ورد من الأحاديث مما يشير إلى وجود الترقي في الدين قوله عليه الصلاة والسلام ( يقال لصاحب القرآن : اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ) لذلك قيل للنبي عليه الصلاة والسلام في بداية نزول الوحي عليه { اقْرَأْ } أي لتترقى ما دمنا نعلم أن القراءة تثمر العلم والمعرفة فكان الغاية المنشودة الأصلية هي العرفان قال تعالى { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }

لأن السلوك ميدانه الترقي في عوالم الأنوار فذلك معنى السير أما الوصول فلفظه يدل على معناه { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ } الذي هو غاية الثواب والجزاء للعبد على حسن سعيه وصنيعه في طاعته لربه لذلك قال تعالى في الآية التي قبل هذه الآية { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ } فليس هناك جزاء أوفى من جزاء المعرفة بالله تعالى فهي غاية السعادات ونهاية الخيرات لذلك قيل أن أغلى ثمرة يقطفها العبد المؤمن في دنياه هي ثمرة المعرفة بالله

إذا ادركت أن طريق السير مراتب فاعلم أن هناك مشايخ بحسب تلك المراتب فهناك من المشايخ من تكون معارفه حدودها عوالم المكاشفات فهو يدعو الخلق ويأخذ بأيديهم إلى ما هو فيه وهذا أمر حسن جيد جليل حيث يدعوهم إلى السير على خطاه في الوصول إلى مشاهدة الأنوار الإلهية في مقام الحقيقة المحمدية متى علمنا أن المؤمن إذا وصل إلى مرتبة النفس المطمئنة يصلح أن يكون مربيا

لأن عالم التزكية عالم تطهير القلوب من العلائق والعوائق أما مسألة الفتح فلا علاقة لها بشأن التزكية لأن الفتح يأتي هجومي من حضرة الله لا يدري الفقير متى يفتح عليه كما قال في الحكمة ( قلما تكون الواردات الإلهية إلا بغتة لئلا يدعيها العُبَّاد بوجود الاستعداد ) فالتزكية تسبق الفتح فهي مطلب ايماني لا يصفو ايمان من غير تزكية بمعنى أن تزكية النفس وتأديبها مطلب شرعي ليس بالضرورة أن يتوقف طلبها على وجود مطلب الفتح الكبير في العرفان والولاية بل التزكية أمر مطلوب من كل مؤمن { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }

كم تجد اليوم من أناس لا خبر لهم عن تزكية نفوسهم ومع هذا تجدهم يرغبون في الوصول إلى مراتب أهل الولاية وغاب عنهم أن ذلك يبقى مجرد تمني منهم لأن الذي لا يباشر تزكية نفسه ومجاهدتها قدر ما يستطيع وذلك بمصاحبة شيوخ التربية من أهل الله تعالى ممن تزكت نفوسهم وفرغوا من تأديبها لا يعتد به في طريق الله تعالى ويعتبر سيره سيرا نفسيا وربما جر الوبال على نفسه وغيره ممن يعجب به ويتبعه لذلك أمر الله تعالى بصحبة الصادقين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }

لأن كل من كان في مرتبة النفس الأمارة بالسوء غير مؤهل لإرشاد الناس ودلالتهم على الله تعالى لذا تعيّن كمال تزكية النفس والوصول بها إلى مرتبة النفس المطمئنة حيث يؤهل صاحبها لدلالة الخلق على ربهم مهما كانت درجته نازلة عن درجات كمل الأولياء ومحققي الصوفية من الراسخين في العلم لأن الخلق أصناف فهناك الأولياء الكبار وهناك الصغار فكل صنف من الأصناف يلقيه الله تعالى إلى جنسه من نفس وصفه

قال سيدي محمد بن أحمد البوزيدي شيخ سيدي بن عجيبة رضي الله عنهما فيما معناه والنص في كتابه ( كنت أعرف في بلدتنا شيخا عارفا من أولياء الله لكني لم أكن أرتضيه شيخا إلى أن سمعت عن سيدي العربي الدرقاوي رضي الله عنه فقدمت عليه الخ.. )

لذا تجد من الشيوخ من يأذن لأكثر من واحد من مريديه كسيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه فقد أذن لكثير من مريدين بالتربية والإرشاد منهم من سافر إلى الشام لنشر الطريق وهو سيدي محمد الهاشمي التلمساني رضي الله عنه الذي أذن لغير واحد أيضا منهم سيدي عبد القادر عيسى الحلبي الذي أذن بدوره لبعض مريديه ممن توفرت فيه الأهلية لإرشاد الناس ودلالتهم على الله تعالى ومنهم سيدي محمد سعيد البرهاني الذي أذن بدوره لسيدي أحمد عادل خورشيد وهو والد المنشد نورالدين خورشيد المعروفة فرقته الإنشادية بديار الشام لكن يوجد من هؤلاء المشايخ من كانت حدود معرفته بالله في مقام الحقيقة المحمدية أي كونه صاحب مكاشفات لا صاحب مشاهدات فهو من هذه الناحية يعتبر مقارنة مع عامة أهل الإيمان وليا كبيرا كونه من خواص أهل الإيمان من الأبرار من أهل الجنان

لكن عند مقارنته بأصحاب الأسرار من كمّل العارفين بالله تعالى ممن فتح عليهم بالفتح الكبير من أهل الفناء والبقاء فتنزل درجته عن درجتهم ومنزلته عن منزلته بفارق بينهما كبير كما الفرق بين المكاشفات والمشاهدات وإن كانت المكاشفات مقدمة على المشاهدات إلا أنها لا تصل إلى منزلتها لأن محل المكاشفات كوني بينما المشاهدات تعلقها بحقائق المولى

قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه خلال زيارته ديار الشام ( أردت أن أعرج بسيدي يوسف النبهاني إلى الحضرة القدسية فوجدته متشبثا بالحضرة المحمدية فثبته فيها ) الملاحظ يرى بوضوح اليوم شدة اعتناء سيدي يوسف النبهاني رضي الله عنه بشؤون الحضرة المحمدية ذلك مشربه وديدنه تجد ذلك في كتبه فهو عاشق تلك الحضرة ومتيمها ..

أيضا هناك من العلماء العاملين أصحاب مكاشفات لكون الكشف والنور لا يختص فقط بأهل الطريقة وإن كانوا أكثر الناس وصولا لهذه المرتبة لكون طريقهم طريق سير وترق بل كان غالبية علماء السلف وكبار الفقهاء من أهل الكشف كالأئمة الأربعة وأضرابهم من طبقتهم

بل العالم والفقيه الذي يكون من أهل الحجاب لا يعتد به عند الراسخين في العلم لذلك أطلق سيدي محي الدين بن عربي على أهل الحجاب من الفقهاء لقب علماء الرسوم أي علماء ظاهر المباني الذين لم يصلوا إلى بحر المعاني فأنكروها أي معاني الأنوار وبحار الحقائق والأسرار الإلهية لكن لا يجوز الحط من منزلتهم لأن الشرائع تحفظ بهم فلولاهم ربما ضاع الدين لكن ما لا يحمدون عليه هو دخولهم في نزاع مع الأكابر وهو ما أدخلهم في المحذور فتشتت ببعضهم السبل فشرقوا وغربوا ..

التقيت مرة بشيخ عارف من المأذونين بالتربية والإرشاد فطلب مني زيارة شيخ مرب فسألته عنه وعن مكانته في طريق من حيث الإرشاد والتربية فقال لي : الرجل عالم من علماء الشريعة سلك الطريق ثم آذنته بالتربية والإرشاد حتى ينتفع الخلق به في بلدته لكنه لا يصل إلى مرتبة العارف الفحل وما لا يدرك كله لا يترك جله ..الخ
ذكرت هذا حتى يعلم أن مشايخ التربية درجات ومراتب منهم أهل أنوارومنهم أهل أسرار

أما ما ذكرته في موضوعي في الأعلى من تفصيل بين عامة الأولياء وبين أصحاب الرتب والمقامات من أهل وظائف التصريف من خواص الأولياء كالقطب الأعظم في كل زمان ومن كان في دائرته فمرادي بعامة الأولياء أي من كانت وظيفتهم التربية وليس وظيفتهم التصريف متى علمنا أن المشايخ أصناف ثلاثة :

- مشايخ التعليم
- مشايخ التربية
- مشايخ التصريف

إنما الآن في جوابي هذا أذكر أصناف مشايخ التربية لا مشايخ مدرسة وظائف التصريف وكونهم ليسوا على درجة واحدة من النور والعرفان من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ذكرت هذا حتى لا يختلط الأمر على القارئ فيظن أن المراد بعوام الأولياء في موضوعي أعلاه الأولياء العارفين في مستوى الحقيقة المحمدية لكن هذا غير صحيح بل مقصودي بعوام الأولياء أي العارفين الكاملين من أصحاب الفتح الكبير أي الوارث الكامل في ميدان التربية والإرشاد

لذلك ذكرت أن صاحب هذا المقام قد يجمع الله تعالى له بين وظيفة الإرشاد وبين وظيفة التصريف فيكون مربيا وقطبا غوثا في نفس الوقت متى علمت وجود فوارق بين مدرسة التربية وبين مدرسة أهل التصريف فيكون بحث المريد عن مشايخ التربية لا عن مشايخ التصريف وماذا يفعل عند مشايخ التصريف ؟ ماذا ستستفيد منهم ؟ هذا موسى ذهب إلى تلك المدرسة فأنكر عليها بما معه من أحكام معقولات الشريعة وشريعة المعقولات

بل ربما دخل في الشرك من حيث لا يشعر متى علمنا أن مدرسة أهل التصريف مدرسة سرية لا يجوز ذكرعلومها للناس ولا ايداعها في الكتب خشية اعتقاد أوهام من الشركيات فذاك باب خطير لذلك قال الشيخ الأكبر نحن قوم تحرم كتبنا على غيرنا

إنما عليه أن يبحث عن شيخ تربية يربيه ويعينه على تزكية نفسه ثم يزفه إلى ربه وذلك بأن ينزل تحت حكمه كما نزل موسى تحت حكم الخضر كونه في حضرة الخضر يتعلم منها
لهذا لا تجد من يقول لك أنا أبحث عن القطب أو الغوث بل تجد غالبية المؤمنين يقولون : نبحث عن شيخ مرشد يربينا ويرقينا فلسان كل شيخ مرشد وارث يقول { قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

بيد أن الشيخ العارف في مقام الحقيقة المحمدية لا يمكنه أن يوصلك إلى مقام الفناء ولا البقاء وإنما حدود ما يوصلك إليه أن يزج بك في أنوار الحضرة المحمدية وهي منزلة عظيمة وإن كانت في حقيقتها مرحلة من مراحل سير المريد إلى حضرة ربه ..

لذا تجد أصحاب الأذون في الطريقة صنفان :
- مشايخ كاملين من أصحاب الفتح الكبير من كمّل الأولياء فهم أرباب السلوك حقيقة كما ورد قول سيدي محمد المداني في رسالته لمريده سيدي اسماعيل الهادفي رضي الله عنهم في رسالته الجامعة له ( العلامة المبرور والصديق الصادق المشكور الصوفي الكامل سيدي الشيخ إسماعيل بن عثمان الهادفي نفع الله بكم العباد والبلاد )

الشاهد قوله ( الصوفي الكامل ) لأن السائر الذي لم يصل أو توقف به السير في حدود الحقيقة المحمدية لا يعتبر صوفي كامل وإن كان يدخل في زمرة أولياء الله من حيث خواص أهل الإيمان كما دخل أهل الإيمان من حيث عموم ولاية الإيمان فكل مؤمن هو ولي لله تعالى الولاية العامة أما الولاية الخاصة فهي لأصحاب الإيقان بين ولاية خاصة الخاصة فهي لأصحاب مقام الإحسان من أهل المشاهدة والعيان

لذا لا حرج من وجود مراتب من مشايخ التربية وما على المريد الذي لم يجد الإضافة على ما عند شيخه أن ينتقل منه إلى غيره ليكمل سيره بل تجد من الشيوخ من يقول لمريده ونعني هنا بالشيوخ غير الكاملين لكنهم صادقون منورون ( يا بني أعطيتك كل ما عندي فإن كنت تبغي المزيد مما ليس عندي فابحث عمن يوصلك إليه ...)

المشايخ الذين أذكرهم وأثني على أوصافهم في جميع كتاباتي أقصد منهم بالتحديد العارفين الواصلين الكاملين لا سواهم

أما انتفاع الناس فيحصل على أيدي مشايخ التعليم من علماء وفقهاء وكذلك على أيدي مشايخ التربية الذين جمعوا بين الشريعة والطريقة سواء كانوا في منزلة الحقيقة المحمدية أو منزلة العرفان في الحضرة الإلهية إلا أن العارفين من أصحاب الحضرة الإلهية يزيدون عليهم بعلوم الحقيقة في أعلى مستوياتها متى أدركت أنه { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } ..

والله تعالى أعلم

إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

07 مايو 2019 12:17

ماشاء الله بارك الله بكم سيدي
بقي عندي سؤالان سيدي لو تكرمتم :
1- بعض من نعرفهم من شيوخ الحضرة المحمدية مأذونون بتلقين الاسم الأعظم لمريديهم أي الذكر الخاص وهو بحسب ما أفهم باب الدخول للحضرة الالهية ومعارفها والدخول لعالم الفناء ثم البقاء .. فما فائدة ذلك بالنسبة لهم ولمريديهم وهم ليسوا من أهلها ؟ واعذروني سيدي ان كان هذا السؤال بالذات مكررا مني لكن نطمع منكم بالمزيد وبما يشفي الصدر ويجلي الأمر ويقطع الشك .
2- هل المكاشفات سيدي شرط لازم في السير قبل الوصول للمشاهدات ؟
بمعنى هل لابد للمريد أن يكاشف برؤية عوالم الغيب وعوالم الملائكة ....الخ قبل أن يشاهد ويدخل عوالم الأسرار أم هو شرط غير لازم بمعنى يمكن أن يصل الى عالم المعرفة الالهية وأسرارها من دون أن يمر على عوالم الكشف ؟

وبارك الله بكم سيدي ولاحرمنا من علومكم . آمين
ماهر الشاذلي
عضو جديد
مشاركات: 9
اشترك في: 22 إبريل 2019 13:45
آخر نشاط: 01 يناير 1970 01:00
مكان: السعودية
العمر: 55
اتصال:

08 مايو 2019 00:56

أشكركم شكرا كثيرا أخي الأستاذ علي، أجبتم بالضبط عمّـا قصدته في سؤالي، مع زيادات منكم. هذا مع يقيني بأنكم اضطررتم إلى اختصار الجواب اختصارا، وإلاّ فالفيض بحر متلاطم الموج لا يُدرك قعره أبدا.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

08 مايو 2019 09:49

ما شاء الله سيدي علي ...نفعنا الله بكم وجزاكم خيرا على جميل فيوضاتكم....واشكر الاخوة ماهر الشاذلي ود. الياس بلكا لجميل اسئلتهم وجميل طرحهم .
والله لقد اسعدتم قلبي جدا جدا جدا بهذا الموضوع الدسم
ماذا عساي ان اقول
رضي الله عنكم اجمعين ورزقكم فوق ما تشتهون
بانتظار باقي رد حضرتك.
dalia slah
عضو جديد
مشاركات: 5
اشترك في: 22 إبريل 2019 08:37
آخر نشاط: 01 يناير 1970 01:00
مكان: Egypt
العمر: 51
اتصال:

09 مايو 2019 11:59

جزاكم الله خيرا وبارك فيكم على تفاعلكم ساداتنا الكرام

مع العلم أن الثناء على العبد الفقير بأوصاف الفتح والمعرفة لا يصح لأن فاقد الشيء لا يعطيه وأنا العبد الضعيف أشهد على نفسي أني لست سائرا في طريق الله ولا عارفا فضلا أن أكون واصلا وإنما غاية ما أكتبه إما شيئا سمعته من أهل الله أو فهمته عنهم إن صح مني الفهم والله تعالى عليم بذات الصدور { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }
لكن كما قيل أن المحبة تفعل المستحيل
لا غير ...
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

09 مايو 2019 15:54

ماهر الشاذلي كتب:بقي عندي سؤالان :
1- بعض من نعرفهم من شيوخ الحضرة المحمدية مأذونون بتلقين الاسم الأعظم لمريديهم أي الذكر الخاص وهو بحسب ما أفهم باب الدخول للحضرة الالهية ومعارفها والدخول لعالم الفناء ثم البقاء .. فما فائدة ذلك بالنسبة لهم ولمريديهم وهم ليسوا من أهلها ؟ واعذروني سيدي ان كان هذا السؤال بالذات مكررا مني لكن نطمع منكم بالمزيد وبما يشفي الصدر ويجلي الأمر ويقطع الشك .


بارك الله فيكم سيدي ماهر الشاذلي وجزاكم خيرا على أسئلتكم المفيدة

الجواب على سؤالكم الأول والله أعلم بالصواب :

سألت شيخنا سيدي فتحي السلامي حفظه الله تعالى حول هذه المسألة فذكر مقدمات ومسائل يجب معرفتها تتعلق بشأن السير والسلوك أذكر منها بالمعنى ما فهمته مع اضافات :

1- مسألة تلقين الإسم المفرد الجامع -اللـــه- للمريد من حيث تدريبه في مرتبة أولى على ذكره لتنوير ذاته وتطهير وعائه الذي هو القلب وذلك بقطع دابر الخواطر النفسية والشيطانية فتثمر المواضبة على الذكر النور القلبي والبصيرة اليقينية ضرورة فكل مداوم على الذكر لا بد أن يتنور قلبه عاجلا أو آجلا ..

لأن كل مواضب على ذكر الله تعالى بمجاهدة ورغبة حقيقية على نعت الصدق والإخلاص لله تعالى يتنوّر قلبه وتصفو وارداته حتى وإن كان من جملة المتبركين أو من عوام المؤمنين الذين ليس لهم انتساب للطريق وأهله فضلا عن المريدين السائرين فهم أولى وأولى بالتنوير لصحبتهم للشيوخ العارفين من أهل النور والبصيرة
فدرجة الوصول إلى التنوير القلبي وذلك عن طريق ذكر الله ليست موقوفة على أهل الطريق بل قد تجد من العلماء العاملين والمؤمنين الصادقين على درجة عالية من التنوير ومنهم أصحاب مكاشفات ومنازل من النور عاليات وذلك بسبب مواضبتهم على ذكر الله تعالى بأي صيغة من صيغ الأذكار ..

لذلك فالشيخ عندما يلقن المريد في بدايته الذكر بالإسم المفرد إنما يلقنه تلقين التدريب لتطهير القلب وتنوير الفؤاد تجهيزا للعروج به إلى حضرة الله تعالى التي هي حضرة عرفان وحقائق لذلك لا تستغرب من وجود أذون صريحة عند كثير من المشايخ أخذوها عن مشايخهم بتلقين الأوراد العامة والخاصة التي منها الذكر بالإسم المفرد لأن الأذكار عامة والإسم المفرد على وجه الخصوص توصل المريد الذاكر إلى حضرة التنوير سواء أكان هذا الذاكر مسلما عاميا أم من أهل النسبة من المتبركين أم من العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين ...الخ لأن الذكر باب الوصول إلى حضرة واحدة بالنسبة للجميع لا فرق وهي حضرة النور

إلا أن مصاحبة أولياء الله تعالى وخدمتهم وأخذ طريق السير عنهم في هذا الجانب أرقى وأعلى كونهم أصحاب اجتماع على ذكر الله فذلك ديدنهم وبذلك عرفوا متى علمت أن المريد عليه أن يلتمس على الخير أعوانا ومن أعظم الخير ذكر الله تعالى ولما معهم من فضائل لا توجد عند غيرهم كالعرفان بالله تعالى والتحقيق والرسوخ في العلم فشتان بين أن تصاحب شيخا يعينك على تزكية نفسك ويلقنك الذكر ويرقيك ويذاكرك ليفتح الله تعال بصيرتك وبين أن تتبع طوائف أخرى ضالة لا يذكرون الله إلا قليلا

إنما يتبع الناس المشايخ ليفوزوا بشرف النسبة إليهم ويا لها من نسبة شريفة ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) سواء ساروا وسلكوا أو مكثوا من جملة المحجوبين لأن كل شيخ عندما يرفع رايته يوم القيامة يكون جميع فقرائه معه في ظل تلك الراية سواء العارف منهم أو المحجوب على حد سواء وهذه من النعم الكبرى والمنن العظمى وهذا الفضل لا تجده عند غير أهل الله تعالى

لذلك لا حرج من وجود مشايخ مأذونين بتلقين الإسم المفرد وكانت درجتهم العرفانية في مرتبة الحقيقية المحمدية التي لا يعرف مقدارها الفخيم وشأنها العظيم إلا من دخل تلك الحضرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم فلا يعني عند تفصيل مراتب أصناف الأشياخ الحط من أقدارهم أو الإستنقاص من منازلهم الرفيعة ودرجاتهم العالية فهذا يعد سوء أدب كبير مع الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم مع أولائك الأشياخ أنفسهم فالأدب واجب متحتم { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

هؤلاء يلقنون مريديهم الأذكار العامة والخاصة التي منها كثرة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوصلوهم إلى الحضرة النورية متى علمنا أن النور كاشف فتحدث لمن وصل لتلك الحضرة المكاشفات وربما أخبر بمغيبات أو كوشف برؤية نور النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يقظة أو مناما وما يعطيه كل ذلك من فراسة وفهم وعلم وكل ماهو من حضرة النور متى علمت أن نور كاشف يكشف ما أمامك وما حواليك وما هو بعيد عنك ..الخ

هؤلاء الصنف من العلماء والأشياخ يدعون إلى الله تعالى في مقام الشريعة والطريقة فأذونهم صحيحة تلقوها عن مشايخهم لكنهم لا يلقنون علوم الحقيقة وهو الأمر الثاني

2- مسألة تلقين حقائق الإسم الجامع للمريد السائر

المرحلة الأولى كما بيّنا مسألة تدريب للتطهير والتزكية أما هذه المرحلة الثانية فمتعلقها الفناء في الذات الإلهية لأن كل ما كان قبل هذا دائرته نورية أي الفناء في نور الأفعال والفناء في نور الصفات أما هذه المرتبة العالية هي المشار إليها حقيقة بمعنى السلوك فهي الفناء في الذات أو قل إن شئت اخراج المريد من الكون إلى المكوّن وهذه المرتبة لا يمكن ولوجها بغير شيخ وارث محمدي كامل أبدا لأن الشيخ هنا بواب الحضرة الإلهية وعندما نقول الحضرة الإلهية أي الفناء في الذات العلية

هذه وظيفة شيوخ التربية الوارثين على التحقيق والتعيين لذلك قد تجد شيخا يأذن لأكثر من مريد له بتلقين الأذكار العامة والخاصة وتلقين الذكر بالإسم المفرد لكن على نعت تدريب المريدين على الذكر الموصل إلى الحضرة النورية حيث تفنى الخواطر وتضمحل ويحل محلها الواردات الصافية عند ذلك تنتهي مهمة من آذنه الشيخ هذا المستوى النوري من الإذن ..

بينما يباشر الشيخ الكامل بعد تلك المرحلة العروج بروح المريد إلى عالم الفناء ثم يرده إلى عالم البقاء فيصبح عارفا واصلا فيكون أولى المريدين بمن يصدق عليه وصف " الولي " فهذا هو الولي حقيقة أما غيره ممن لا يكون من أهل الفناء والبقاء فيصدق عليه وصف الولاية العامة أو الولاية الخاصة التي هي ولاية إيمان وتقوى التي حاصلها وصف " الصلاح " فيكون أصحابها من ( الصالحين ) أكثر مما يصدق عليه وصف الولاية لذلك يوجد فرق بين العبد الصالح وبين الولي الصالح وإن شئت قلت يوجد فرق بين الولي الصالح وبين الولي العارف متى أطلقت وصف الولاية على أصحاب النور جزاء الإيمان والتقوى وهذا يجوز وهو صحيح

إنما حتى لا تختلط درجة الصلاح ودرجة العرفان والتحقيق فلا يميز العبد بينهما وجب بيان هذا لأن ولاية الصنف الثاني العالي ولاية عرفان وتوحيد خاص وتحقيق وهو صنف أعلى من القسم الأول ..

ثمّ ذكر حفظه الله تعالى مثالا قال : " لو افترضنا في الشاهد شخصا ما ألقى بنفسه أو سقط من عمارة شاهقة نحو عشرة طوابق أمام أنظارنا فكيف سيكون حكمنا عليه ؟
قلت : أكيد أن الشخص سيكون في ذمة الله ففرص نجاته من الموت المحقق تكاد تكون معدومة
فقال : هذا الجواب منك يكون على افتراض وجود ملك الموت بانتظاره في الأسفل لكن لو سقط ذلك الشخص مع عدم حضور ملك الموت فلن يموت مهما كان العلو الذي سقط منه لكن ربما سيمكث طوال حياته يعاني من الإعاقة والشلل والمرض ..الخ بسبب حادثة السقوط

قال كذلك في الشاهد أمر الفناء في الحضرة العلية لا بد من وجود شيخ يأخذ بيد المريد يدخله تلك الحضرة القدسية فكما أن الموت لا يمكن أن يحصل إلا بحضور ملك الموت نفسه فكذلك الدخول إلى الحضرة القدسية والفناء في الذات العلية وموت وجود نفس المريد لا يمكن حصوله أبدا إلا بوجود شيخ عارف مأذون من قبل الله ورسوله بتلقين حقائق الإسم الأعظم لأن تلقين الذكر بالإسم المفرد في مرحلته الأولى يكون على نعت التطهير والتنوير وهذا يسمى تدريب الفقير على الذكر ليتأهل لتلقين الحقائق بينما مرحلته الثانية وهي المرحلة الأساسية تكون في مستوى تلقين حقائق الإسم الأعظم لأن الإسم لا يدل إلا على مسماه ليصبح عارفا بالله فتحتم وجود الشيخ العارف الوارث المحمدي هنا لأن المسألة مسألة تحقيق وليست فقط مسألة تنوير ..

لذا تجد شيوخا مأذونين يأذنون المريدين في تلقين الأذكار بين أوراد عامة وخاصة لكن ليس بامكانهم تلقين الحقائق فالتصوف مجعول للتحقيق والعرفان لا لمجرد التنوير والإيقان لكن لا بد من وجود التنوير لأنه لا توجد تحلية بالفضائل قبل حصول تخلية من الرذائل فلا تبنى البيوت على جرف هار بل تبنى على أساس صحيح
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ }
لذلك كان أساس بنيان كل مؤمن التقوى والتقوى محلها القلب { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } ما ذكر صفة القربان ولا قيمته المادية وإنما ذكر وصف حال تقوته الذي سرى في القربان فقبله الله منه ..

أما المدعي الذي يدعي تلك المرتبة العالية من الإذن بالتربية والإرشاد مهما ادعى فلن يستطيع ادخال مريده حضرة التحقيق أي حضرة الفناء والبقاء أما إذا كان المدعي عارفا ولقن مريده الحقائق من غير إذن فهو على خطر كونه تسور محراب لم يؤذن فيه ولا كلفته الحضرة العلية به ..

قلت :

تذكرت وأنا بصدد كتابة هذا أن جميع ما ذكره شيخنا سيدي فتحي السلامي حفظه الله تعالى كان قد ذكره سيدي الشيخ أحمد العلاوي رضي الله عنه من قبل في جوابه على سؤال ولي الله سيدي محمد بوشناق وهذا نصه :

((( إلى الجناب المحترم وليّ الله الشيخ سيدي محمد بوشناق حفظكم الله ووقاكم والسلام عليكم وعلى من معكم من المنتسبين إلى الله

سيدي فإن المكتوب الذي وجهتموه إلينا قد توصلنا به كما وقفنا على نصّ سؤالكم المتضمن :

كون أحد المقدمين من إخواننا المنتسبين قد توفي أستاذه ولم يترك من يخلفه في مقام الدلالة على الله سوى ذلك المقدم غير أنه لم يكن بيده إذن صريح من أستاذه في ترقية المريدين وتدريجهم في طريق السلوك إلى الله ,

سوى أنّه كان كلّفه قبل موته بأيام بتذكير بعض المريدين كانوا مختلين للذكر , وكان أستاذه عاقه عن تذكيرهم ما وقع له من المرض , فامتثل التلميذ لذلك , وبعد وفاة الأستاذ , ظهر على ذلك المقدم من الإقبال وغير ئلك من الشواهد التي تدل على استعداده , فهل يكون ذلك كافيا له عن الإذن الصريح في تسيير المريدين على طريق السلوك ؟ أم لا بدّ له من إذن صريح أم كيف العمل ؟ فهذا ما فهمته من مضمون سؤالكم .

الجواب والله يلهمنا وإياكم إلى الصواب :

الإذن في ترقية المريدين في دلالتهم على الله عام وخاص , أما ما يرجع للإذن العام في نحو الأذكار المشروعة والأعمال الصالحة , لا يتوقف على ما يتوقف عليه الإذن الخاص وهو على قسمين أيضا :

- الأوّل :

يرجع إلى تلقين المرشد للمريدين الأذكار الخاصة بسلوك الطريق ويبعثهم على الذكر والتوجه , ويفوّض الأمر إلى الله فيما يفتح به على قلوب الذاكرين من الحقائق وأنواع المعارف , والمعنى أنه لا يقتحم تلقين تلك الحقائق للمريدين بنفسه ,

- والقسم الثاني من الإذن : هو أن يزيد المرشد على ما بعث المريد عليه من الأذكار وما ألزمه من أنواع الطاعات , تلقين بعض الحقائق بحسب استعداد المريد وقابليته , لأجل توسيع دائرة معارفه في الإلهيات إلى أن ينتهي به السير إلى ما يجعل معرفته بالله ضرورية ,

وهذا الأخير هو الذي يحتاج المرشد فيه إلى الإذن الصريح , وإلى ما هو أصرح من الصريح , إن استطاع , لأن صاحب هذا المقام يريد أن يتسور المحراب , وإذا فلا بدّ أن يكون برضاء صاحب الحضرة وبإذنه ,

وبعبارة أخرى إن صاحبه يريد أن يفتح بابا في سياج قد سدّ في وجوه الخلق عامة , إلا من ارتضاه الله من عباده , فلا يحسب أن الأمر هيّن ,

أما الذي أختاره أنا لهذا الأخ هو أن يقيم على وظيف الأمر بالمعروف والنهي على المنكر , ولا عليه أن يبعث المريدين في الأذكار الخاصة , بدون ما يهجم على تلقين الحقائق إليهم حتى يعلم حكم الله في ذلك من نفسه أو يعززه على ذلك مرشد كان ذلك الأمر من شأنه ليعتمد عليه في ذلك الأمر المهم ,

وكل ما قدمناه يتوقف على خلاص ذلك المريد في نفسه وفراغه مما يتعلق باصلاح ظاهره وباطنه , والله يصلح شأننا وإياه وشأن إخواننا المسلمين آمين , والسلام . )))

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : كتاب : أعذب المناهل في الأجوبة والرسائل - القسم الثاني رسائله رضي الله تعالى عنه - الرسالة التاسعة عشر - الطبعة الثانية سنة 1414هــــ 1993م
المطبعة العلاوية بمستغانم رقم التسجيل ( 24/58/87 )


أنظر قوله في نص الجواب :
(( الأوّل : يرجع إلى تلقين المرشد للمريدين الأذكار الخاصة بسلوك الطريق ويبعثهم على الذكر والتوجه , ويفوّض الأمر إلى الله فيما يفتح به على قلوب الذاكرين من الحقائق وأنواع المعارف , والمعنى أنه لا يقتحم تلقين تلك الحقائق للمريدين بنفسه ))

ثمّ قوله (( والقسم الثاني من الإذن : هو أن يزيد المرشد على ما بعث المريد عليه من الأذكار وما ألزمه من أنواع الطاعات تلقين بعض الحقائق بحسب استعداد المريد وقابليته )) أنظر قوله ( بحسب استعداد المريد وقابليته ) لتعلم أن نوال المريدين من الحقائق لا يكون على مرتبة واحدة بل يشتركون في المعرفة بالله تعالى العامة لكن من حيث الخصوصيات قد يتقدم أحدهما على الآخر لذا قال العارفون أن الفرد تعلو معارفه بالله معارف القطب كي تعلم معنى قول الله تعالى في حق أهل النبوة فضلا عمن سواهم

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وقال تعالى { ‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}

قال سيدي فتحي حفظه الله :
" تلقين الحقائق لا يجوز إلا لمن رأى شيخه فيه الأهلية لذلك وتكون بحسب قابلية المريد "
قال : " عندما آذنني شيخنا سيدي اسماعيل الهادفي رضي الله عنه قال لي " ضع المريد يذكر الإسم المفرد ورغبه فيه وذاكره في الآداب الشرعية ثمّ متى تنوّر ذاكره في الحقيقة "

قلت : أي ذاكره في الحقيقة بحسب قابليته

لذا لا تستغرب وجود الشيخ الملقن للذكر الخاص بسلوك الطريق لكن من غير أن يقحم نفسه في تلقين الحقائق إما بسبب عجزه عن ذلك ففاقد الشيء لا يعطيه وإما لعدم وجود الإذن له بذلك فقد تجد مريدا عارفا بالله محققا واصلا لكنه غير مأذون بتلقين الحقائق ولا بالتربية والإرشاد وقد تجد غيره مأذونا بتلقين الأذكار الخاصة ولكنه لم يصل إلى عالم الفناء والبقاء لكنه شيخ صالح راسخ القدم في الحقيقة المحمدية والحضرة النورية ومن هؤلاء سيدي يوسف النبهاني رضي الله عنه وتلك المدرسة النورية رضي الله عن أصحابها الفخام وأهلها العظام

ثم استشهد سيدي فتحي السلامي حفظه الله تعالى بما ذكره من كون الشيخ الكامل هو الذي يخرج مريده من ظلمة السوى إلى نور المولى ومن عالم الفناء إلى عالم البقاء بسر في الشيخ فيما بينه وبين ربه يعلمه أربابه ويكون هذا السر متوارثا من شيخ إلى شيخ من باب قول الشيخ العلاوي رضي الله عنه في قصيده ( وعند وفاة الشيخ يظهر كمثله *** هذه سنة الله جرت فلا بدلا ) بأبيات من قصيدة سيدي محمد المداني رضي الله عنه التي يقول فيها :

يا مَن يريد الوصول *** ويبغــــي منّا القبول
يتبع طريقَ الفحــول *** أهــــــــــل الفَنا والبَقا
يتبع طريقَ الرّجــال *** ويَطرح عنه الجدال
هذا طريقُ الجمــــال *** والعزّ والارْتِقــــــــاء
يَقف لنا في الأبــواب *** نرفع عليه الحجـــاب
نكشف له الاقتــــراب *** يفوز بعد الشّقـــــــاء
حتّى يصل للمقصـود *** رغما لأنف الجحود
يعرف إلها معبــــود *** إن ذاب وانمحقــــــــا
يقطع خيالات الأنـام *** وينفي عنه الأوهــــام
يدخل لبحر الهيـــــام *** يزداد فيه شوقــــــــــا
يغيب عن الــــوجود *** ويخفــــى عن المفقود
يذوق معنى الشّـهود *** يرقــى مع الأصدقاء
يذكر كأهل الكمـال *** وينفــــــي عنه الخيال
يمحــو جميع المثال *** يعــــرف معاني البقا

الشاهد الذي أراده من القصيد هو قول الناظم :

يتبع طريقَ الفحــول *** أهــــــــــل الفَنا والبَقا

طريق الفحول أي طريق العارف الفحل من أهل الفناء والبقاء فكل عارف لا يمكنه أن يدخل مريده بحر الفناء ثم يخرجه إلى عالم البقاء فليس بعارف فحل أما الذي يدخل مريده إلى عالم التنوير على اعتبار كونه عالم الفناء في الذات فذلك الجهل بعينه والقول في دين الله بغير علم

لذلك كما تلاحظ تعدد المراتب وتباين المقامات وتفارق المنازل وإن كان الأصل واحد ( كلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم ) وما لا يدرك كله لا يترك جله فلا نطالب جميع المسلمين بصحبة العارفين بل قال في الحكمة ( سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه )

في رسالة سيدي محمد المداني لشيخنا سيدي اسماعيل رضي الله عنه قال له من جملة وصاياه فيها :

( ثم إنّي أقول لكم أنّ آداب التصوف ومبادئه تمكن قراءتها بالدروس والتلقّي بالتعبير والتحرير وأمّا روح التصوف الذي هو الفناء في الله عز وجل والبقاء به فلا بد فيه من حسن التوجه وكثرة الذكر بالإسم المفرد الذي تطمئنّ به القلوب فالتصوف حال تنشأ عن إفراد الوجهة إلى الله تعالى والعمل بما علم العبد فيورثه الله علم ما لم يعلم وطول الأمد فيه تربية للإنسان مهما كان شأنه والله مع الصابرين )

الشاهد قوله ( وأمّا روح التصوف الذي هو الفناء في الله عز وجل والبقاء به ) فبين أن روح التصوف هو مقام الفناء والبقاء أي تلقين الحقائق للمريد الذي أساسه كما قاله ( فلا بد فيه من حسن التوجه وكثرة الذكر بالإسم المفرد الذي تطمئنّ به القلوب ) إنما قال عن الذكر بالإسم المفرد ( تطمئن به القلوب ) رغم أن جميع صيغ أذكار الله تطمئن بها القلوب كما في قوله تعالى { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } لوجود خاصية كما ذكر سيدي فتحي حفظه الله لا توجد في غيره من الأذكار كونه الإسم الجامع الدال على الذات انما غاية الذكر لإطمئنان القلوب أما بعد ذلك فيكون الرجوع وهو معنى الدخول إلى عالم الفناء فيفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل

{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي }

لاحظ كيف أمرها بالرجوع إليه بعد ذكر حال اطمئنانها بذكر الله تعالى لأنه لا يتحقق رجوع من غير اطمئنان بالذكر لهذا كثرت وتعددت الأذون الخاصة والعامة على أيدي كثير من المشايخ المأذونين لكون الغرض والغاية هو ادخال الناس في حضرة النور ثم بعد ذلك يتولى الله أمرهم فيوصلهم إلى من يدخلهم إلى حضرته لذلك نصح سيدي الشيخ االعلاوي رضي الله عنه صاحب السؤال بقوله ( ويفوّض الأمر إلى الله فيما يفتح به على قلوب الذاكرين من الحقائق وأنواع المعارف والمعنى أنه لا يقتحم تلقين تلك الحقائق للمريدين بنفسه ) لأن الله متكفل بعباده وهو بكل شيء محيط

أما ذكر الله تعالى على عمومه فهو متاح للجميع فحضرة التنوير تقبل الكافة من المكلفين وتتسع لعامتهم وخاصتهم فهي لسان الإيمان المنادي { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا }

قصة :
دخلت مرة إلى مسجد فوجدت المصلين جالسين ينتظرون إقامة الصلاة حدجت فيما بينهم رجلا عاميا كانت غاية معرفتي به كونه من مرتادي ذلك المسجد ومن المهاجرين العاملين بالخارج يعلوه نورا على وجهه كأنه بدر ليلة تمامه حتى أغشاني ذلك النور لا أدري هل شاهد الحاضرون ما شاهدته أو لا فقلت سبحان الله كيف ينال عامة المسلمين ما لا يناله كثير من المنتسبين لأهل الله تعالى من المريدين ..

لتعلم أن الدين ليس حكرا على الصوفية ولا غيرهم بل دين الله واسع وفضله على سائر عباده عظيم ولا نكون كاليهود والنصارى الذين قالوا { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } الذين احتكروا الدين فيهم وما ظنوا أن المسلمين هم آخر الأمم وعليهم أن يؤمنوا برسولهم محمد صلى الله عليه وسلم فالمؤمنون إخوة
وإن كان التصوف الصحيح الخالي من الإنحرافات والخرافات والأوهام هو لب الدين وروحه فمنزلته عظيمة وشأنه فخيم مهما كانت مرتبة الشيخ فيه وصنفه لكن بشرط الصدق والإخلاص وصحة الإذن فالمنتسب إليه ليس كالمنتسب لغيره { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه }

الخلاصة فضل الله واسع يشمل الجميع لكن هناك مراتب ومنازل فيه بينما يبقى مراد الجميع وغايتهم هو ربهم تعالى سواء كانوا عواما أو خواصا أو خاصة الخاصة { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فأكبر الشح وأعظمه الشح بطاعة الله وذكره

قال تعالى { وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } وقال تعالى { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وقال تعالى { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }

قال تعالى { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } وقال تعالى { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ }

في بيان فضل معية أصناف مراتب أهل الإيمان قال تعالى :
{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا }

والله تعالى أعلم وأحكم
..
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

10 مايو 2019 02:21

جزى الله الشيخ فتحي السلامي وجزاكم سيدي علي كل خير على ماافدتم ووضحتم وبينتم.
سبحان من علم اولياءه وجعلهم منارة هدى وهداية عامة للعالمين وخاصة للسائرين.
ماهر الشاذلي
عضو جديد
مشاركات: 9
اشترك في: 22 إبريل 2019 13:45
آخر نشاط: 01 يناير 1970 01:00
مكان: السعودية
العمر: 55
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 3 زوار