رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> مقدمة قبل كتابة موضوع حول السلوك

04 سبتمبر 2017 00:23


بسم الله الرحمان الرحيم والعاقبة للمتقين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه

منذ مدة وعدت أحد اخواننا في الله تعالى كتابة موضوع يتعلق بالسلوك خصوصا بيان الفيصل في التمييز بين السالكين وبين المتبركين في الطريقة لتراكم الجهل المدقع في عقول المسلمين في هذا الزمان الحالك حتى كثرت فيما بينهم عدد الفرق المتناجرة والمتفارقة بالشحناء والبغضاء فكثرت الشيع ( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )

ثمّ ما وقع من التحريف في مجال الديانة وأركانها وعلومها حيث غاب عن غالبية أهل الإسلام كثيرا من مفاهيم الدين الصحيحة كما قال تعالى في بني إسرائيل من قبل ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) فكم في الأمة الإسلامية اليوم ممن يحرفون الكلم عن مواضعه لقوله عليه الصلاة والسلام ( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ ) لذلك ما حدث في الأمم السابقة حدث ويحدث في هذه الأمة

قال عليه الصلاة والسلام ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )

هؤلاء الذين قدمهم الناس باعتبارهم علماء ليسوا بعلماء ولكن اتخذهم الناس كذلك حتى كثر أتباعهم فأمسوا بالملايين فانظر قوله عليه الصلاة والسلام ( اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) فتصور فئات تعد بالملايين يقودها " جهّال " تفهم كل شيء
لا يتخذ الجاهل قدوة إلا جاهل مثله لتفهم أن الناس متى اتخذوا الجهال رؤوسا يقودونهم فاعلم أن أؤلائك الناس بدورهم جهال فتصور بعد ذلك جاهلا ينتخب جاهلا فكيف برأيك تكون النتيجة ؟

تصور أيضا أن من تصدر لمنح التزكية والأوسمة والرتب الدينية هم عوام الناس فتجد العالم أو الفقيه - فيما يبدو للناس - يفرح بتزكية العوام له والثناء عليه ويتخذ ذلك أنه منحة من الله ومن ناقشه في ذلك ربما اتهمه في ظنه بالحسد والضغينة ..

قصص الأمم الغابرة التي ورد ذكرها في القرآن إنما ذكرها الله تعالى وقصها علينا لتجنب ما وقع فيها من أفعال وأحوال مذمومة والتحذير منها في مقامات الدين الثلاثة " الإسلام والإيمان والإحسان " أي في القصص القرآنية تجد ذكر علل وحظوظ وذنوب وسيئات من تقدم من أقوام الأمم السابقة في مقامات الدين وأركانه فذكر علل الأعداء من المشركين والكفار وعلل الأتباع من العوام وعلل السائرين من المؤمنين أيضا ممن نزلوا أو سقطوا

ما ورد ذكر تلك القصص القرآنية كسرد لتاريخ قديم فحاشا أن يكون القرآن كذلك بل هو كتاب نور وهدى ورحمة وعلم وحكمة وليس هو كتاب تاريخ إذ لو كان كتاب تاريخ لذكرت فيه جميع قصص الأمم الغابرة لكنه لم يذكر من تلك القصص إلا ما يصلح شأن هذه الأفراد والمجموعة والأمة عبر الأزمنة إلى يوم القيامة من حيث الإسلام والإيمان والإحسان لذا قال تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ )

القرآن في مجمله لا يبحث إلا عمّا يصلح شأنك خصوصا منه شأن القلب والروح حيث روح المعنى وهو حقيقة الإنسان فكان القرآن في حقيقته الجامعة كتاب سلوك وترقية إلى ملك الملوك لذا ورد في الحديث ( يقال لقارئ القرآن " اقرأ ورتل وارتق كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها " ) فقوله كما كنت ترتل في الدنيا أي كما كنت على نهج الإستقامة عليه في الدنيا

فبين علل الأعمال وعلل الأحوال وعلل المقامات وذكر الشريعة والطريقة والحقيقة بأوضح بيان لذا قال سيدنا عمر رضي الله عنه ( حسبنا كتاب الله ) فكلّ من ظن أن القرآن كتاب شريعة فقط فهو مخطئ بل عدّد الفقهاء آيات الأحكام فوجدوها لا تتعدى بضع مئات ومن ظنّ أن القرآن كتاب طريقة فقط فهو مخطئ أيضا وإن كان الركن الأهم المذكور في القرآن هو ركن الطريقة فهو الركن الاساس الوارد في القرآن لكون علوم الحقيقة أيضا موجودة فيه لكونه كتاب أسرار ومعارف وفهوم وأذواق فهو كتاب جامع ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )

اعلم بعد هذا أنّ الذي يزكيك بداية هو الذي لا يخفى عليه من شأنك شيء وهو الله تعالى كما قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ) أنظر قوله ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ) أي من يعلم التقي من الدعيّ هو الله تعالى فالشأن أن ترد تزكيتك من قبل الله تعالى ولا تصدر من عامة الخلق من الدهماء ممن يحسنون الظن بك بحسب نواياهم

أمّا الذي يظمئن ويفرح بالثناء والمدح والتعظيم من الناس ونفسه مازالت حية تسعى فهو مستدرج على خطر عظيم هذا مع وجود سبب الثناء والمدح أمّا الذين قال الله تعالى فيهم ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فهو صنف أشد وأخطر وقد توعدهم القرآن بالعذاب الأليم

اجتمع أحد اخواننا العارفين بصديق لي في مدينة دمشف خلال سياحة إلى ذلك البلد فلما اصتلت بصديقي سائلا عن اجتماعه بذلك العارف قال لي " هذا عارف ذو معرفة عظيمة " فلما اتصلت بأخينا العارف ذكرت له ما قاله صديقي في حقه فقال " وكيف عرف أني صاحب معرفة عظيمة وهو محجوب وليس له أي قدم في السلوك بل ولا علم له عن ماهية السلوك شيئا ؟؟؟ ... )

في الشاهد لو دخلنا جامعة علمية تقام فيها مناقشة لأطروحة دكتوراه فوجدنا أن الذين يقيمون مستوى تلك الأطروحة ويناقشونها ما هم غير عوام من الجاهلين - مثلا - فأكيد أنك لن تقيم وزنا لشهادة صاحب الأطروحة الصادرة له من قبل عوام الناس حتى تعرضها على المختصين من العلماء المتمرسين وعلى هذا المقياس قس المتصدرين اليوم فهو يفتخرون بكثرة الأتباع وكثرة المادحين وكثرة المقبلين ..

كذلك هناك أمر آخر يتعلق بمحبة الناس وميلهم للمشيخة في هذا الزمان فتقدم كل من هب ودب فتناطحت النفوس فيما بين بعضها حتى صار الشيخ يغير من شيخ آخر وأمسوا مثل النساء يتحايلون على أموال الناس يأكلونها بالباطل ويأكلون مجهودات الفقراء وعرق المساكين ويستعبدون الناس بطرق مختلفة قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )

هل تتصور أن حبرا أي العالم أو رهبانا أي الزاهد الذاكر المختلي - بحسب الظاهر - يأكل أموال الناس بالباطل والأدهى كونه يصد عن سبيل الله رغم أن المفترض منه أن يكون أول الداعين إلى الله الآخذين بيد الخلق إليه ثمّ الأمرّ والأدهى ( إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ) ذاكرا كثرتهم وهذه مصيبة ناهيك عما نراه اليوم ونشهده من أكل صريح لأموال الناس بالباطل بإسم الدين ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )

لذا فأول معنى من معاني طلب السلوك في طريق الله تعالى هو إرادة التخلص من جميع تلك الأمراض والعلل والعيوب حتى يلحق المؤمن ببعض أو بكثير مما عليه أهل النبوة والولاية من صدق وإخلاص ومحبة ويلحق بخواص المؤمنين فمبحث السلوك قبل كل شيء هو قوله تعالى ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )هذه هي الأسرة الجامعة في بيت واحد وهو بيت الإستقامة والطاعة والعبودية ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ) فالمقصد الأساس من الدين هو التطهير والتزكية ليهتدي العبد إلى سلوك طريق الله تعالى ( ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى )

فيبدأ العبد بمعرفة هذا المقصد ثمّ الشروع في اتخاذ سبله ووسائله قصد تحقيقه هدفه كبداية متى علمت أن أوّل قدم يضعه السالك في الطريق هو قدم : " ذكر الله تعالى " قال لي أحد ساداتنا العارفين " كان بعض الفقراء في عهد الشيخ إسماعيل رضي الله عنه يذكرون الإسم بعدما آذنهم شيخهم لــمدة 8 أو 10 - و12 ساعة كل يوم فكل من يرغب في السلوك وتجده بطالا في مجال ذكر الله تعالى فاعلم أنه صاحب دعوى وأنا أشهد على نفسي العبد الفقير كوني بطالا في مجال الذكر والطاعة وأكتب مثل هذا الكلام وأنا خال منه تماما لذا أقول " خذوا عني ما سمعته من العارفين ولا تقتدوا بي في شيء من أفعالي اطلاقا " والله على ما أقول شهيد

نظرت بلا بحث فوجدت في القرآن مراتب السلوك والسير ثلاث هي : الذكر ثمّ التسبيح ثمّ التقديس

فالذاكر محب والمسبح معظم والمقدس مشاهد لذا ذكرت الملائكة النوعين الأخيرين المتعلق بحالتها ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) مبيّنة علاقة التسبيح بالحمد وعلاقة التقديس بالذات فكانت متأدبة كمال الأدب مع الصفات والذات والإلهية بينما أعوزها العلم في عالم الأسماء لهذا استفسرت بقولها ( قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ) لكون عالم المعصية لا يخطر لها على بال لعدم اطلاعها على علوم الأسماء الإلهية فهو علم خاص بسيدنا آدم وبنيه من بعده لذا فكل من التحق في الصفة بوصف الملائكة في عالم كمال التنوير قام في مقام التسبيح غير المنقطع

كما قال تعالى في حق الملائكة ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ) فما قال يذكرون بل قال يسبحون وقال تعالى " الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ " لذا قال تعالى بداية ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) فأمر بالذكر الكثير أي غير المنقطع ثم أمر بالتسبيح بكرة وأصيلا وهي درجة أخرى ومنحى آخر من التوجه العالي الراقي له خصوصياته كما قال تعالى في حق سيدنا يونس عليه السلام ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فما قال ( فلولا أنه كان من الذاكرين )

لكون التسبيح هو التذلل أمام العظمة الإلهية في جميع مراداتها ومشيئتها في أسمائها وصفاتها فلو لا هذا التذلل الصادر من سيدنا يونس أمام تجليات تلك العظمة الإلهية ( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أما إبليس لعنه الله تعالى كان من المستكبرين في حضرة رب العالمين فقيل له ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ )

متى علمت ذلك فاعلم بعده أن معاني الدين الذي جاء به الأنبياء والرسل هو الآخذ بيد الخلائق إلى رب العالمين بحسب مرادات الله واختياراته واصطفاءاته ومشيئته من باب ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )

هذه مقدمة قبل الشروع في كتابة ما وعدت به ذلك الأخ إن شاء الله تعالى

إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

04 سبتمبر 2017 02:11

جزاكم الله خير الجزاء
كلنا في أمس الحاجة لتصحيح مفاهيمنا حول هذا الموضوع بالذات
متابعون ان شاء الله
نفعنا الله تعالى و المسلمين جميعا
آمين
أنوار
عضو جديد
مشاركات: 11
اشترك في: 24 مايو 2017 03:33
آخر نشاط: 03 نوفمبر 2017 16:13
مكان: الدار البيضاء
العمر: 47
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد