رياض الواصلين >> التصوف و السلوك >> البيان في معرفة عالم الإيقان

20 يوليو 2017 23:54



بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله

القلب الصافي قلب ملكوتي فذاك عالمه فهو عالم معان على موائده يأكل ويشرب العبد الرباني والفتى العرفاني كما قال عليه الصلاة والسلام عند وصال صومه ( إِنِّي لَسْتُ كَهَيئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقِيني ) فهو يبيت يطعمه ربه ويسقيه فحدد مكان مائدته في شهر الصيام خاصة فاعتبر عناوين مساكن العارفين حتى تزورهم هناك كما قال سيدي أبو العباس المرسي لي كذا وكذا سنة ما غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين

قال القوم في وصف رسول الله عليه الصلاة والسلام كونه ( نورا تشكل ) كما قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه في قصيده

يا رسول الله أنت ** أنت النور المتشكل

لولا معاني النور ما تشكلت مبانيه فكل ما يشهده الحس وتراه العيون ما هو في حقيقته إلا معنى من المعاني تشكل وفي الإشارة ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) فلو سأل السائل مثلا عن مكان إقامة سيدنا آدم وقت خلقه وسجود الملائكة له وهو في مادته الطينية بعد تكوينه لكان الجواب أنه كان في السماء فذاك عالمه الأول والأصلي خصوصا بعد أن أعلمك أنه ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) فتلك حقيقة آدم وقوله تعالى ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) فأصل المقرّ هو الجنّة وإنما ما حدث هو ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا )

فانظر إلى عظمة البلاء الذي حصل لآدم وذريته لأن الأرض وإن جعله فيها خليفة فهي ليست داره فالأصل عالم الغيب وعالم الملكوت وعالم الجنان وعالم المعاني فالمجيء من هناك وهذا تعلمه في قدوم الأرواح ونفخها عن طريق الملك في الآدميين خصوصا بعد أن أعلمك أن حقيقتك روح وليس مجرد جسم جامد وهناك قبل خلق جسدك أخذ عليك العهد ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ) فقولهم شهدنا من معنى الشهود وهو عالم حضور ويقظة وهو عالم إيقاني لذلك قال في آخر الآية ( أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ )

الأصل في كل شيء عالم الملكوت وهو عالم معنوي تنطوي فيه الجسمانيات والماديات والمحسوسات فيكون الحكم في عالم المعنى للمعنى على المحسوس بخلاف عالم الدنيا يكون الحكم للمحسوس على المعنى لشدة غفلة الناس وانحجاب قلوبها وقساوتها فمن دخل عالم المعاني وذاق ينتهي تعلقه بعالم الحس بل تضحى محسوساته معاني نبهتك أنّ الدين هو معنى وليس مجرد رسم لذا سمى أهل الله تعالى علماء الظاهر بــ : علماء الرسوم لأنه لا قدم لهم في عوالم المعنى فجنحوا إلى مباحث الفقه والجرح والتعديل وعلوم الآلة وظنوا أنّ ذلك غاية الغايات وهم واهمون في ذلك بل هم ادركوا قيمة العلم وفهموه لكن غاب عنهم مفهوم المعرفة بالله تعالى ومفهوم السلوك والسير وتزكية النفس شرط الفوز والنجاح

لذلك من جملة مراحل السلوك التي لا بدّ منها شهود الأشياء - بحسب مراتبها - ترجع إلى أصلها وحقائقها كما قال تعالى ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) أنظر قوله ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) تفهم كل شيء فليس مطلوبا ولا متاحا لكل أحد أن يكون من أصحاب مقام الإحسان الذي هو مقام المعرفة بالله تعالى فهو مقام اصطفائي تختار الحضرة الإلهية من شاءت وتصطفي إليها من تريد بحسب الإستعداد والتأهيل ( قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي )

لكن مقام الإيقان هو مطلوب الوصول إليه من قبل جميع الناس لأنه مبحث تقوية الإيمان وتكملته فكل من كمل إيمانه دخل عالم إيقانه وتصفيته من الشرك الباطن الخفي ومأمورون به لذلك ذكره سيدنا موسى عليه السلام لفرعون وقومه لما سأله عن ماهية الذات الإلهية وكنهها فأجابه من طريق آخر حيث رده إلى معاينة الأنوار الصفاتية
كما في قوله ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ) أنظر قوله تحديدا ( إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ) ولم يقل له ( إن كنتم مؤمنين ) أو ( إن كنتم محسنين ) ثمّ كونه لم يخاطب فرعون بخطاب المفرد كأن يقول له ( إن كنت موقن ) أو ( إن كنت محسن ) بل عم بخطابه الجميع فرعون وقومه لأنّ الوصول إلى مقام الإيقان متاح للجميع لأنه مقام العلم والبيان فالبيان يكون في مقام عالم الإيقان لذلك قال تعالى بهذا الخصوص ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) فما كلمتهم بقولها ( لا يؤمنون ) فافهم

قال تعالى ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) أنظر قوله ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) فما قال ( وبالآخرة هم يؤمنون ) ففرق كبير بين أن تؤمن بالآخرة وبين أن توقن بها

قال تعالى في معرض تعريف معنى البيان حقيقة ( قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) من دخل مقام الإيقان دخل إلى عالم البيانات الربانية والتعريفات الإلهية
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )

( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ )

قال شيخنا سيدي إسماعيل رضي الله عنه : كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام تركه موروثا في أمته ( أي حتى المعراج ) لكن معراج النبي عليه الصلاة والسلام كان يقظة لا مناما جسما وروحا بينما معراج العارفين في أمّته يقع لهم روحا لا جسما كل بحسب درجته ومستواه واستعداده وهو مقام خاص ليس متاحا لجميع أفراد المؤمنين ...

نعم هناك من البيان ما هو في عالم المعقولات كما قال تعالى ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) لكنه يرغب ويدفع إلى البيان الحقيقي وهو بيان المكاشفات لذلك ذكر التفكر بقوله تعالى ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) متى علمت أن التفكر مقام سلوك وسير لقوله تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فالتفكر في خلق الأرض جدلا ربما يكون متاحا وقريبا متى حملنا الأمر على ظاهره وبساطته ولكن من أين لمؤمن ربما يكون أميا بسيطا من البدو أو الحضر أن يتفكر في خلق السماوات العلا جميعها ؟

فهذا دليل على أنّ في أمر التفكر مكاشفات وبيانات يصلها الذاكر بذكره لقوله تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ .. ) لذلك كانت علاقة ذكر الله تعالى بالسير والسلوك علاقة متينة وطيدة لا انفكاك فيها لذا حثّ القرآن الكريم على ذكر الله تعالى حثّا لا مثيل له لأنّ الذكر هو أعظم باب وأكبره من أبواب الوصول إلى معرفة الله تعالى

متى علمت أنّ هذه المعرفة لها طرق ومناهج ومسالك ومراتب ومراحل ومشايخ يأخذ عنهم المريد لأنّ الأصل في كل شيء هو الاتباع والإقتداء في الدين فلا يصلح العبد أن يسلك بنفسه أو يسير في الطريق بحسب أهوائه وشهواته ولو كان هذا السائر أو السالك عالما في علوم الظاهر فهذا لا يفيده بل ربما يساعده فقط متى صدّق بطريق السير والسلوك وفهمه

هناك أمران :

- تعليم القرآن ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ )

- تعليم البيان ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )

فهذا معنى التعليم المقول فيه ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) فشتان بين من يأخذ التعليم والبيان عن الله تعالى وبين من يأخذه عن فلان وعلان أو عن نفسه وشيطانه ولا يعني هذا الإستغناء أو الزهد في تلقي علوم الشريعة والعلوم النافعة بصفة عامة عن العلماء العاملين والعارفين المحققين بل هذا واجب ومفروض وإنما كلامنا بخصوص علوم السير والسلوك


كان غرضي الحديث حول عالم القلب الصافي الملكوتي الذي سنكمل الكتابة فيه إن شاء الله تعالى ...

يتبع إن شاء الله تعالى ..


إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

25 يوليو 2017 16:32

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
بارك الله فيك سيدي الحبيب
يوسف مطر
عضو جديد
مشاركات: 10
اشترك في: 28 إبريل 2017 16:11
آخر نشاط: 03 فبراير 2018 05:03
مكان: فلسطين
العمر: 52
اتصال:

26 يناير 2018 01:54

للرفع ..
عابرسبيل
عضو نشيط
مشاركات: 44
اشترك في: 15 يوليو 2017 22:49
آخر نشاط: 21 مارس 2018 23:01
مكان: مدينة
العمر: 28
اتصال:

28 يناير 2018 01:50

كلام أخينا الأستاذ علي يشوّق إلى الله تعالى وملكوته
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

28 يناير 2018 09:37

بارك الله بكم سيدي
من أجمل ماقرأت
ماهر بركات
عضو جديد
مشاركات: 21
اشترك في: 29 إبريل 2017 12:28
آخر نشاط: 24 إبريل 2019 22:07
مكان: السعودية
اتصال:

30 يناير 2018 08:50

جزاك الله خير
Mohummed
عضو جديد
مشاركات: 16
اشترك في: 10 مايو 2017 07:27
آخر نشاط: 07 فبراير 2018 11:01
مكان: أبوظبي
العمر: 34
اتصال:

30 يناير 2018 23:45

إن شاء الله يكمل الشيخ علي الصوفي حديثه عن القلب الملكوتي فقد قال أنه سيكتب عنه بمشيئة الله.
عابرسبيل
عضو نشيط
مشاركات: 44
اشترك في: 15 يوليو 2017 22:49
آخر نشاط: 21 مارس 2018 23:01
مكان: مدينة
العمر: 28
اتصال:


العودة إلى “التصوف و السلوك”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد