رياض الواصلين >> الفقه و الأصول >> الــورع: من العلوم المهجورة في الأمة

03 مايو 2017 09:39

"الـــــــــــورع": من العلوم المهجورة في الأمة.

الورَع في اللغة هو الكفّ، وتورّع من كذا أي تحرج. وليس له في الاصطلاح حدّ واحد، بل يطلق ويراد به معان متعددة، إلا أن كثيرا من العلماء يقولون إنه اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات.
والورع غير التقوى، إذ يشترط في التقوى تجنب الصغائر أو أكثرها، بينما شرط الورع هو تجنب الشبهات. فالورع أخص من التقوى: كل ورِع فهو تقيّ، ويوجد تقي غير ورع.
كذلك يفرّق كثير من العلماء بين الورع والزهد، يقول ابن رشد: " الورع هو اجتناب المحرمات والشبهات.. والزهد هو ما يبعث على اجتناب المحرمات والشبهات، وترك التنعم بالمباح من الشهوات. فكل زاهد ورع، وليس كل ورع زاهدا، فالورع أعم من الزهد ". وحكى ابن القيم أن ابن تيمية كان يقول: " الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة ". وهذه العبارة جميلة بل من أحسن ما قيل في الفرق بين الزهد والورع.
ويمكن أن أصور الفرق بين المقامين بالمثال الآتي: الرجل إذا كان يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات، ثم يتحاشى الأمور المشتبهات ويحذر أن يقع فيها، فهذا مؤمن ورع. فلو فرضنا أنه يحب المال حبا جما، ولا يزيد عن إخراج زكاته، بل يسعى إلى الزيادة في ماله باكتسابه من الطرق الحلال، ويفعل هذا لنفسه؛ ولو فرضنا أيضا أنه يقضي أكثر أوقاته في الراحة، والأخذ لحظّ نفسه بأنواع المباح والطيبات… فمن هذا حاله يكون ورعا أيضا، أعني أن صدور هذه الأفعال منه لا تزحزحه عن درجة الورع ما دام ممتثلا، وللشبهات مُجتنبا؛ لكنه لا يكون زاهدا، فالزهد أخص من الورع.
من هنا نشأ رأي في الأمة يرى بأن المباح من الطيبات، وأنواع الاستراحات واللذات، وكذا الأعمال التي لا تدخل تحت مسمى الطاعات.. كل هذا لو تُـرك كان أفضل وأوْلى، وخصوصا لسالكي طريق الآخرة. وهم لم يجعلوا ذلك فرضا على جميع الناس، إذ لا خلاف بين المسلمين أن الأمر الحتم اللازم هو فعل الواجبات وترك كل المحرمات، وأن من هذا حاله يرجى له الفوز في الآخرة؛ لكنهم يمدحون الزهد ويروْن الزاهدين من المقربين؛ فكأن هذا يتنزل على ما وصف الباري تعالى في قوله سبحانه: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير ) .
إلا أن الأمر الذي اختلف فيه هو عدّ التورع عن المباح والزهد في الحلال المحض طاعةً يؤجر عليها ويمدح فاعلها. وهذا خلاف قديم في تاريخنا العلمي، دارت بسببه " معارك " فكرية واسعة بين طوائف أهل العلم، وهؤلاء لم ينقسموا إلى فريق الفقهاء مقابل فريق الزهاد وأهل التصوف، كما هو أول الظن، بل الانقسام مسّ أيضا كلا الفريقين. لهذا تجد جماعة من الفقهاء والصوفية على رأي واحد مقابل جماعة أخرى منهم على رأي آخر؛ على أنه يصح أن نعتبر أن كثيرا من الفقهاء اختلفوا مع كثير من الصوفية في اعتبار ترك الحلال الصرف طاعة تفعل وسلوكا يؤتى.
والراجح ما قاله ابن العربي من أن "الذي يوجب العلم ويقطع العذر، ويوضح الأمر، أن الله سبحانه قال لنبيه: (وتبتل إليه تبتيلا)، فبين النبي عليه الصلاة والسلام التبتل بفعله، وشرح أنه امتثال الأمر واجتناب النهي، وليس بترك المباحات، وكان النبي عليه السلام يأكل اللحم إذا وجده، ويلبس الثياب تبتاع بعشرين جملا ويكثر من الوطء، ويصبر إذا عدم ذلك، ومن رغب عن سنته بسنة عيسى فليس منه ".
لهذا كان أقرب الأقوال في حقيقة الزهد، قول من قال: الزهد في القلب، ولا يمكن الاطلاع عليه. ونفى أن يكون الزهد من أعمال الجوارح. قال عماد الدين الأموي في كتابه حياة القلوب: "قال المحققون: ليس الزهد فقد المال بفراغ اليد منه، بل الزهد فراغ القلب منه.. فالمعتبر في تحقيق الزهد أن لا يكون القلب متعلقا بالدنيا، بل باللّه، سواء كان يملك شيئا من متاع الدنيا أم لا…"
لكن الحقيقة رغم ذلك أن الموضوع صعب، وهذا أبو حامد الغزالي رحمه اللّه، بعد أن أطال في الكلام على الزهد وحقيقته ودرجاته، انتهى إلى قوله: "..فإذن معرفة الزهد أمر مشكل، بل حال الزهد على الزاهد مشكل".
لذلك توجد حاجة إلى إعادة بناء علم الورع وتأصيل أصوله وتفريع فروعه، فهذا علم هجرته الأمة منذ زمان ولم يتجدد فيه الاجتهاد ولا حتى التأليف.. فقد كتب كل واحد من الأئمة أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك والبيهقي وغيرهم من السلف كتابا مستقلا بعنوان: الزهد، وكتب أبو بكر المروذي وأحمد أيضا: كتاب الورع. ثم كان من أواخر من ألّف في الموضوع هو شمس الدين الأبياري، الفقيه المالكي المصري، حيث كتب في القرن السابع كتابه الفريد: الورع.. ثم جاء الشاطبي وزروق في القرن التاسع فأضافا الجديد للموضوع. وربما كان هذا القرن في حدود اطلاعي هو آخر الأزمنة في الإبداع في هذا العلم.. صحيح أن الورع نقَص في الأمة، باعتباره سلوكا تربويا، لكنه لم ولن ينقطع.. فقد استمرت دائما في الأمة طبقة الزهاد والورِعين، يكفي لتتأكد من ذلك أن تطالع كتب التراجم في كل عصر وستجد الإشارة إلى عدد من هؤلاء.. حتى اليوم يوجد ورعون صادقون، لكن في الغالب لا يعرفهم الناس.. إذ الورع في رأيي من فروض الكفاية في الأمة، فهو علم وسلوك لابد أن يقوم به أحد، وإذا فُـقد كان ذلك علامة من العلامات على بدء الانحلال العام لشخصية الأمة.
إن علم الورع علم حقيقي ودقيق، يكفي الاطلاع على ما كتبه العلماء قديما حوله للتأكد من هذه الحقيقة. لذلك أتمنى أن يوجد باحثون شباب في عالمنا الإسلامي، ولو بضعة أفراد، يكون تخصصهم الدقيق هو هذا العلم بالذات، ولو أضافوا لذلك التطبيق العملي له كان ذلك نورا على نور: (يهدي الله لنوره من يشاء).
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “الفقه و الأصول”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد