رياض الواصلين >> الحديث وفقه السيرة >> فقه أحاديث الفتن والملاحم 1

09 مايو 2017 21:56

فقه أحاديث الفتن والملاحم (1).

حضرت منذ سنين ندوة دولية متخصصة في السنة الشريفة وعلومها، وجاء بعض الموظفين في جائزة الأمير نايف للحديث الشريف، وهي الجائزة الوحيدة في هذا المجال.. وطلبوا من الحضور اقتراح موضوعات للجائزة. بدون تردد اقترحت عليهم: (أحاديث الفتن: مشكلاتها وفقهها).
والحق أن أحاديث الفتن خطرة، إذا أسيء فهمها، وقادرة على عمل مشكلات للأمة وأفرادها. فقد تؤدي إما إلى الانعزال والتشاؤم.. أو إلى الفوضى والهرج. لذلك حين قرأ بعض الناس في عصرنا حديث أبي سعيد الخدري، رفعه: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.." فإنهم تركوا أمصار المسلمين والتحقوا بالفيافي والجبال.
وقبل هذا اشتكى الأفغاني من بعض المسلمين، ومن "فهمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان أو قرب انتهائه، فهماً يثبط هممهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح، مما لا عهد للسلف الصالح به".
ومنذ حوالي عشرين سنة بالخصوص بدأت تروج بين الشباب المسلم أحاديث الفتن، وبدؤوا يسقطونها على بيئتهم الخاصة، ويعيـّنون تأويلها.. بحسب فهمهم وظروف زمانهم ومكانهم.. ثم أصبح هذا عمل تنظيمات وجماعات.. حتى ظهر تيار الجهاد العالمي الذي فسر أحاديث الشام والعراق تفسيرا محددا، لذلك فقتال الدولة الإسلامية بالمنطقة الحدودية بين العراق وسوريا، وإن كان له أسبابه الجغرافية والعسكرية، إلا أنه وثيق الصلة أيضا بتصور سائد بمقتضاه تكون معركة كبرى في آخر الزمان بين المسلمين وغيرهم، خاصة الروم.. بالمكان الذي بين العراق والشام.
مثلا جاء في سنن أبي داود ومسند أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصالحون الروم صلحًا آمنًا حتى تغزوا أنتم وهم عدوًّا من ورائهم، فتنصرون وتسلمون وتغنمون وتنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيقول قائل من الروم: غلب الصليب، ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب، فيثور المسلم إلى صليبهم وهو منه غير بعيدٍ فيدقّه، وتثور الروم إلى كاسر صليبهم فيضربون عنقه، ويثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة من المسلمين بالشهادة، فتقول الروم لصاحب الروم: كفيناك العرب، فيغدرون فيجتمعون للملحمة فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كلّ غاية اثنا عشر ألفًا."

لكن هذا لا يجوز أن يدفعنا إلى إنكار هذه الأحاديث، لأنها من الدين، ومما حدّث به الرسول الكريم، ولها أيضاً مقاصدها وغاياتها.. فعن حذيفة، قال: قام فينا رسول الله مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به. وليس ذلك على سبيل التفصيل الجزئي الدقيق، فالمقام الواحد لا يتسع لذلك، قال القرطبي: عمومات هذه الأحاديث يراد بها الخصوص، وإنما مقصود هذه العمومات الإخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها.
إن المشكلة ليست في الأحاديث نفسها، بل في فقهها. وقد لاحظ الشيخ رضا هنا أمراً مهماً، وهو أن لأحوال الأمم العامة تأثيراً عظيماً في فهم أفرادها لنصوص الدين. فهي في حال ارتقائها بالعلم والحكمة، وما يثمران من العزة والقوة، تكون أصح أفهاماً وأحسن استفادة وأكثر اعتباراً، وفي حال الضعف والجهل تكون بالضد من ذلك.
لذلك يجب ضبط موضوع فهم أحاديث البشارات والفتن. وهذه بعض الضوابط علما أن الموضوع بحاجة لدراسة مستقلة :

1 – التثبت من صحة الحديث: إذ من المعروف ـ كما اشتهر عن الإمام أحمد ـ أن ثلاثة كتب لا أصل لها، منها الملاحم . ولذلك اعتبر ابن القيم من مظان الوضع أحاديث التواريخ المستقبلة، خاصة إذا كانت محددة. وأضرب لهذا مثالا من أشهر الكتب المستقلة في الفتن وأهمها، وهو : الفتن لنعيم بن حماد ، من شيوخ البخاري ، لكنه روى عنه مقرونا بغيره . قال فيه صالح بن محمد الأسدي : " كان نعيم يحدث من حفظه ، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها. وقال : سمعت يحيى بن معين سئل عنه، فقال : ليس في الحديث بشيء، ولكنه صاحب سنة. " وقال النسائي : قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة ، فصار في حد من لا يحتج به. وقال مسلمة بن القاسم : كان صدوقا، وهو كثير الخطأ ، وله أحاديث منكرة في الملاحم انفرد بها. الخلاصة إذن هي كما قال عنه الدارقطني : إمام في السنة ، كثير الوهم.

2 – أرى أن تعتبر أحاديث المستقبلات من باب الفقه والأحكام، لا من باب الرقائق والمواعظ ، وبين البابين فروق لا تخفى . لذا لا يجوز في رأيي لغير المجتهد أن يحكم بها ويفسرها، وما يذكر في الفتوى من شروط وآداب يسري على هذا الجانب أيضا من النصوص الشرعية. إذ القول في أحاديث الفتن تتعلق به أحيانا دماء وحقوق ، بل قد يتعلق به مستقبل أمة.

3 – من القواعد عدم تيئيس الناس بأحاديث الفتن: والأصل العام للشريعة هو التبشير وفتح باب الأمل . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا قال الرجل هلك الناس، فهو أهلكهم. قال ابن القيم : وفي معناه : فسد الناس، وفسد الزمان، ونحوه. وقال القرطبي : " إن الذي يسمعه قد ييأس من رحمة الله فيهلك ، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج فيهلك الناس بالخروج عليهم ".

4 – تجنب تنزيل هذه الأحاديث على وقائع جزئية، أو ذكر تواريخ معينة
، خصوصا إذا كانت من الحاضر أو الماضي القريب.

5 – وهاهنا تنبيه أخير، وهو أن الكلام في الفتن والملاحم ـ خصوصا من جهة تطبيق ما ورد فيهما على الحوادث الأرضية ـ ينبني على تحديد عمر الدنيا ومدة بقائها، ولو على وجه التقريب : وهذا لا سبيل إليه لتعلقه بعلم الساعة، وكون النبي عليه السلام بعث بقرب الساعة، قال العلماء : هو قرب نسبي ، أي أن الذي بقي من الدنيا قليل بالنسبة إلى ما مضى منها، وإن كان الذي بقي في نفسه كثير. ولم يصح في عمر الدنيا حديث صحيح صريح، فحديث أنه سبعة آلاف غير صحيح. لذلك كثير ممن رام توقع بعض الحوادث ـ من خلال ظواهر بعض النصوص ـ أخطأ.
والموضوع طويل جدا، ولا يمكن الإحاطة بتفاصيله في بضع مقالات. لكن الذي أريد أن أشرحه هنا هو أن غالب إسقاط أحاديث الفتن على واقع الناس، أي تفسير ما يقع اليوم بأحاديث نبوية مستقبلية.. غالب ذلك يخطئ ولا يصيب. وفي المقالين القادمين سنتعرّف على نموذج آخر وخطأ لعالم أندلسي حاول الأمر نفسه.
يتبع..
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

العودة إلى “الحديث وفقه السيرة”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد