أهمية تدبّر السنّة النبوية
مرسل: 06 مايو 2017 15:11
بسم الله الرحمان الرحيم
و الصلاة و السلام على من أرسل رحمة للعالمين و آله
قال تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا )
من جملة التدبّر أيضا تدبّر الأحاديث النبوية لقول الله تعالى ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) و إن تعسّف بعض الغلاة في نفي كون جميع ما نطق به رسول الله صلى الله عليه و سلّم هو وحي من عند الله تعالى و جادل في ذلك لعدم وجود نور تدبّر القرآن و لا السنّة عنده فكذلك الأمر فسيجد إختلافا في أحاديثه صلى الله عليه و سلّم ..
فكما أنّ القرآن الكريم ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَ يَهْدِي بِهِ ) فكذلك أحاديثه عليه الصلاة و السلام يهدي الله تعالى بها كثيرا و يضلّ بها كثيرا لأنّها من جنس القرآن متى علمت كون السنّة هي أفعاله و أقواله و تقريراته و أوصافه عليه الصلاة و السلام فبهذا يرى العارفون رونقا ظاهرا على الكلام النبوي فيميّزونه بقلوبهم و ببصائرهم عمّا سواه من الكلام لأنّ الحديث النبوي إلى قسمين إمّا أنّ هذا الحدبث قاله رسول الله صلى الله عليه و سلّم و خرج من بين شفتيه و إمّا أنّه لم يقله صلى الله عليه و سلّم فلا ثالث لهذا التقسيم في الحقيقة الأصلية
لهذا تصدّر علماء الحديث لهذا المبحث في علم الحديث من حيث الرواية متنا و من حيث الدراية سندا و جرحا و تعديلا و ذلك لتنقية حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم من الكذب عليه و من الموضوع عليه حتى لا يدخل في الدين ما ليس منه لفظا و معنى ثمّ شرحوا ما صحّ عنه و فسّروه على حسب قواعد الدين و أركانه المتكاملة حتى لا يدخل في الدين ما ليس منه معنى ..
لذا حذّر عليه الصلاة و السلام من أمرين : الأمر الأوّل : من عدم تدبّر القرآن كما قال تعالى ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ..) ثمّ وصف كون الضال و الخارج عن سنّته هو الدّعي الذي لا يتدبّر القرآن فقال مثلا في طائفة الخوارج التي تخرج في آخر الزمان كونهم ( يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم ) و كونهم ( يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهُمْ )
الأمر الثاني و هو موضوعنا : من عدم تدبّر كلامه عليه الصلاة و السلام خصوصا متى قرأت قول الله تعالى ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) و نحن نلاحظ في الآية لطيفة و هي قوله تعالى (ما ينطق عن الهوى ) فخرج كون ما يراد به هنا هو وحي القرآن لأنّ وحي القرآن لا دخل فيه لرسول الله عليه الصلاة و السلام بل هو يتلوه كما نزل لا يزيد فيه و لا ينقص بينما أقواله خلاف القرآن لو تسرّب إليها كونها ليست من الوحي لتسرّب الظنّ و الشكّ إلى الكثير من الأحاديث منها الأحاديث القدسية التي يرويها عن ربّه
لهذا حمل الصحابة جميع كلامه عليه الصلاة و السلام على كونه حقّا لا ريب فيه و على هذا الإعتقاد عاشوا و عليه ماتوا لأن الناس اليوم لا يفرّقون بين معنى الوحي و معنى الحقّ فرسول الله صلى الله عليه و سلّم قد يقول قولا من الحقّ لكنّه ليس من الوحي فأقواله كلّها لا تخرج من كونها حقّا لا ريب فيه و لا يلزم من كونها حقّا أنّها وحي من الأحكام أو الكلام أو الإلهام أو المنام و هذا سنذكره بتفصيله إن شاء الله تعالى و سنعطي مثالا سريعا و ذلك كفي قصّة تأبير النخل فلمّا أخذ الصحابة قوله عليه الصلاة و السلام على ظاهره من حيث عدم جدوى تأبير النخل فلمّا جاءت شيصا أخبروه صلى الله عليه و سلّم عن ذلك فبيّن لهم كونه ظنّ ظنّا أي كونه لم يأمرهم أمرا شرعيا بترك تلقيح النخل
بل أخبرهم بحسب ما ظنّه و هو في تلك الحالة التي ظنّه فيها و التي أخبر عنها الأولياء و منها سيدي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه القائل أن مشهد رسول الله صلى الله عليه عندما مرّ على صحابته و هم يؤبّرون النخل كونه كان في عالم الفناء أي في شهود عالم الحقيقة من كون محو الأسباب و أنّه لا فاعل إلاّ الله فكان فانيا في الأفعال الإلهية و هذا و إن كان ليس هو عين الجمع بين الشريعة التي هي للأسباب و بين الحقيقية التي تشهدك فعل المسبب عند الأسباب إلاّ أنّه مشهد حقّ و صدق و كون الأسباب لا نفع لها و لا ضرّ حقيقة
كما قال لعبد الله ابن عباس و قد كان عليه الصلاة و السلام في شهود سابقية العلم و كون المقدّر واقع و كون الأسباب فانية في ميزان التحقيق ( إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَ إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَ اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَ جَفَّتْ الصُّحف )
لذا كان قال تعالى ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) أي لا أهواء نفسية له في قول هذا القول أو ذاك أي لا ترد على قلبه الخواطر النفسية أو الشيطانية لذا قيل كون السوء لا يخطر على قلبه فلا يقول إلاّ حقّا لعصمته فما قاله في حالة شهود الأفعال هو من الحقّ و في حالة شهوده السابقة فكلامه حقّ و لكنّه لا يكون تشريعا فلا تأخذ به كتشريع و لكن تأخذ به كحقيقة فهو حقّ و وحي من حيث أخذك به كحقيقة و ليس هو وحي من حيث أخذك به كحكم شريعة حتى أنهم قالوا فيه ( كان يمزح و لا يقول إلاّ حقّا ) أي لا يقول إلا حقّا من حيث كونه حقيقة في أصناف الحقيقة المتنوّعة و ليس كشريعة
أي ليس هو من أصناف وحي الأحكام لهذا حمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كلامه صلى الله عليه و سلم و حركاته و سكناته كونها كلّها حقّا لا ريب فيه حتى في مظهره الخارجي و في حياته اليومية و شؤونه الحياتية و إنّما أختصّ التشريع بالأحكام الدينية بينما تجاوز الحقيقة للأحكام الدينية و الدنيوية على حدّ سواء لهذا طالبهم بأخذ أحكام الشريعة و عدم التوقّف مع أحكام الحقيقة لأنّها حمّالة أوجه فهي مشاهد و كشوفات لذا قال الإمام سيدي أبو الحسن الشاذلي إذا خالف كشفك الصحيح الكتاب و السنّة فاعمل بالكتاب و السنة و ذر الكشف جانبا
أمّا كلامه صلى الله عليه و سلّم فله من الحضرات ثلاث حضرات :
- الحضرة الإلهية :
1 : وحي صادر من الحضرة الإلهية و هو أقسام منه وحي الأحكام و منه وحي الكلام و منه وحي الإلهام و منه وحي المنام
و سنورد بإختصار شاهد لكلّ صنف من أصناف الوحي الأربعة :
الأوّل : وحي الأحكام التي نزلت في القرآن و قد ألّف جماعة من العلماء في هذا الباب منهم القاضي ابن العربي رحمه الله تعالى في كتابه ( أحكام القرآن )
الثاني : وحي الكلام و هو يؤيّد في كلّ وجه أحكام القرآن ككلامه تعالى لسيّدنا موسى عليه السلام الذي كتبه في الألواح فهو وحي كلام صدر عنه حكم كفي قصّة المعراج حيث فرضت الصلاة خمسين صلاة رغم أنّ عامّة الأمر بالصلاة موجود في وحي الأحكام في القرآن لكن خاصية الأمر وردت في وحي الكلام فكأنّ وحي الأحكام للأعمال و وحي الكلام للأحوال و من هنا قال كلّ عارف حدّثني قلبي عن ربّي كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( وهب لنا مشاهدة تصحبها مكالمة ) بخلاف سيّدنا موسى فهو في أثناء المكالمة سأل النظر من سطوة حال القرب عليه السلام
بينما سأل الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه مشاهدة ( و ليس نظر ) تصحبها مكالمة و هذا أمر مختلف لكون الكلام أخصّ من وحي الأحكام لتعلّق الكلام بمجال القرب إذ لا واسطة فيه بخلاف وحي الأحكام واسطته الملك ( سيدنا جبريل عليه السلام ) فلمّا تعلّق الكلام بالقرب تعلّق السؤال بالنظر مع إختلاف بين المشارب فيما بين أهل الله تعالى سواء من ساداتنا الأنبياء أو ساداتنا الأولياء عليهم جميعا السلام مع التنبيه على علو درجة الأنبياء على درجة الأولياء لأنّ الأنبياء معصومون بخلاف الأولياء فهم محفوظون وربّما متى شاء الله تعالى كتبنا حول هذه الفروق بين النبوّة و بين الولاية لكوني قرأت تخبّطا كبيرا في ذلك من طرف عدد من مقتحمي هذا الميدان بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير
الثالث : وحي الإلهام و هو المعبّر عنه عند النبي صلى الله عليه و سلّم بقولنا فيما يرويه عن ربّه و هو الحديث القدسي و أغلب تعلقاته ليس بوحي الأحكام بل بمعرفة الله تعالى سبحانه خصوصا معرفة صفاته العليا المقدسة كالحديث الوارد فيه ( فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به و....الحديث ) فهذا من أحاديث الصفات بابه باب وحي الإلهام و في هذا المجال شارك الأولياء رضي الله عنهم الأنبياء في هذا المقام و لكن ليس على نفس درجة الأنبياء متى علمت الفروق بين الصنفين من حيث العصمة من عدمها
لهذا تعيّن تفسير حدّ الشيطان في نفثه و معرفة خواطره إجمالا و تفصيلا و معرفة خواطر النفس إجمالا و تفصيلا في جميع المراتب حتى لا يلتبس على المؤمن النفث من الإلهام لقوله تعالى ( وَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) فكما أنّ العارف يكتب إلهاما من الله تعالى فكذلك صاحب الجدال فهو يكتب بنفث من الشيطان لهذا تعيّن تفسير هذا النفث و حضرة إستمداده و حيله و كيده و مكره ...الخ و لو لا كوننا في موضوع تدبّر الأحاديث كنّا فصّلنا طرفا و الله يحفظنا من الشيطان في خواطرنا ظاهرها و باطنها .. إنّما أكتب بإيجاز لأن تفصيل هذه المباحث يحتاج إلى أوراق كثيرة
الرابع : وحي المنام و هو كما يكون للأنبياء عليهم السلام فقد يكون للأولياء رضي الله عنهم كما قد يكون لعامّة المسلمين و خاصتهم لكن عند الأنبياء قد يكون منه ما هو من قبيل وحي الأحكام كمفردات الآذان فقد رواى الأئمّة كونها كانت رؤيا منامية لأحد الصحابة رغم كون تشريع الآذان للمناداة للصلاة سبق ذلك و لكن نتكلم عن تشريع المفردات ثمّ من هذا الوحي ما يكون من جنس الأحكام الخاصّة كرؤيا سيدنا إبراهيم عليه السلام من ذبح ولده ومنه ما هو من قبيل الإخبار بالمقامات والأحوال كرؤيا يوسف عليه السلام و منه ما هو رؤيا لأحداث قادمة و هذا أمر كثير و مشهور لهذا قسّم النبيّ صلى الله عليه و سلّم الرؤيا المنامية كونها إمّا من الله فهي الرؤيا الصالحة و إمّا من الشيطان و هي الحلم و الحلم من الشيطان
و إنّما يحاول الشيطان الدخول و هو من اليائسين على صنفين من هذه الأصناف من الوحي هما وحي الإلهام و وحي المنام و بما أنّ الأنبياء معصومون منه فلا يدخل عليهم في أي مجال من مجالات ذلك الوحي لكنّه يحاول كلّ مرّة الدخول عليهم رغم علمه كون ذلك لا طاقة له به ولا يستطيعه لذا قال ( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) و قد جاول مرارا و تكرارا لقوله تعالى ( و مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) فهذه الآية و إن كان يراد بها عامّة المؤمنين من حيث حرص الأنبياء على صلاحهم و إيمانهم فلا تخلو من ظاهر كون الشيطان يحاول مع الأنبياء محاولات اليأس
كما حاول ظاهرا ضد النبي صلى الله عليه و سلّم في غزوة بدر لما إرتدّ هاربا حينما رأى جبريل و الملائكة معه و كذلك قوله تعالى ( وَإ ِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) لهذا قال سيّدنا أيوب و هو في مرضه عليه السلام ( و اذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَ عَذَابٍ )
يتبع ...
كتبه : سيدي علي الصوفي
و الصلاة و السلام على من أرسل رحمة للعالمين و آله
قال تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا )
من جملة التدبّر أيضا تدبّر الأحاديث النبوية لقول الله تعالى ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) و إن تعسّف بعض الغلاة في نفي كون جميع ما نطق به رسول الله صلى الله عليه و سلّم هو وحي من عند الله تعالى و جادل في ذلك لعدم وجود نور تدبّر القرآن و لا السنّة عنده فكذلك الأمر فسيجد إختلافا في أحاديثه صلى الله عليه و سلّم ..
فكما أنّ القرآن الكريم ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَ يَهْدِي بِهِ ) فكذلك أحاديثه عليه الصلاة و السلام يهدي الله تعالى بها كثيرا و يضلّ بها كثيرا لأنّها من جنس القرآن متى علمت كون السنّة هي أفعاله و أقواله و تقريراته و أوصافه عليه الصلاة و السلام فبهذا يرى العارفون رونقا ظاهرا على الكلام النبوي فيميّزونه بقلوبهم و ببصائرهم عمّا سواه من الكلام لأنّ الحديث النبوي إلى قسمين إمّا أنّ هذا الحدبث قاله رسول الله صلى الله عليه و سلّم و خرج من بين شفتيه و إمّا أنّه لم يقله صلى الله عليه و سلّم فلا ثالث لهذا التقسيم في الحقيقة الأصلية
لهذا تصدّر علماء الحديث لهذا المبحث في علم الحديث من حيث الرواية متنا و من حيث الدراية سندا و جرحا و تعديلا و ذلك لتنقية حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم من الكذب عليه و من الموضوع عليه حتى لا يدخل في الدين ما ليس منه لفظا و معنى ثمّ شرحوا ما صحّ عنه و فسّروه على حسب قواعد الدين و أركانه المتكاملة حتى لا يدخل في الدين ما ليس منه معنى ..
لذا حذّر عليه الصلاة و السلام من أمرين : الأمر الأوّل : من عدم تدبّر القرآن كما قال تعالى ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ..) ثمّ وصف كون الضال و الخارج عن سنّته هو الدّعي الذي لا يتدبّر القرآن فقال مثلا في طائفة الخوارج التي تخرج في آخر الزمان كونهم ( يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم ) و كونهم ( يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهُمْ )
الأمر الثاني و هو موضوعنا : من عدم تدبّر كلامه عليه الصلاة و السلام خصوصا متى قرأت قول الله تعالى ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) و نحن نلاحظ في الآية لطيفة و هي قوله تعالى (ما ينطق عن الهوى ) فخرج كون ما يراد به هنا هو وحي القرآن لأنّ وحي القرآن لا دخل فيه لرسول الله عليه الصلاة و السلام بل هو يتلوه كما نزل لا يزيد فيه و لا ينقص بينما أقواله خلاف القرآن لو تسرّب إليها كونها ليست من الوحي لتسرّب الظنّ و الشكّ إلى الكثير من الأحاديث منها الأحاديث القدسية التي يرويها عن ربّه
لهذا حمل الصحابة جميع كلامه عليه الصلاة و السلام على كونه حقّا لا ريب فيه و على هذا الإعتقاد عاشوا و عليه ماتوا لأن الناس اليوم لا يفرّقون بين معنى الوحي و معنى الحقّ فرسول الله صلى الله عليه و سلّم قد يقول قولا من الحقّ لكنّه ليس من الوحي فأقواله كلّها لا تخرج من كونها حقّا لا ريب فيه و لا يلزم من كونها حقّا أنّها وحي من الأحكام أو الكلام أو الإلهام أو المنام و هذا سنذكره بتفصيله إن شاء الله تعالى و سنعطي مثالا سريعا و ذلك كفي قصّة تأبير النخل فلمّا أخذ الصحابة قوله عليه الصلاة و السلام على ظاهره من حيث عدم جدوى تأبير النخل فلمّا جاءت شيصا أخبروه صلى الله عليه و سلّم عن ذلك فبيّن لهم كونه ظنّ ظنّا أي كونه لم يأمرهم أمرا شرعيا بترك تلقيح النخل
بل أخبرهم بحسب ما ظنّه و هو في تلك الحالة التي ظنّه فيها و التي أخبر عنها الأولياء و منها سيدي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه القائل أن مشهد رسول الله صلى الله عليه عندما مرّ على صحابته و هم يؤبّرون النخل كونه كان في عالم الفناء أي في شهود عالم الحقيقة من كون محو الأسباب و أنّه لا فاعل إلاّ الله فكان فانيا في الأفعال الإلهية و هذا و إن كان ليس هو عين الجمع بين الشريعة التي هي للأسباب و بين الحقيقية التي تشهدك فعل المسبب عند الأسباب إلاّ أنّه مشهد حقّ و صدق و كون الأسباب لا نفع لها و لا ضرّ حقيقة
كما قال لعبد الله ابن عباس و قد كان عليه الصلاة و السلام في شهود سابقية العلم و كون المقدّر واقع و كون الأسباب فانية في ميزان التحقيق ( إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَ إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَ اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَ جَفَّتْ الصُّحف )
لذا كان قال تعالى ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) أي لا أهواء نفسية له في قول هذا القول أو ذاك أي لا ترد على قلبه الخواطر النفسية أو الشيطانية لذا قيل كون السوء لا يخطر على قلبه فلا يقول إلاّ حقّا لعصمته فما قاله في حالة شهود الأفعال هو من الحقّ و في حالة شهوده السابقة فكلامه حقّ و لكنّه لا يكون تشريعا فلا تأخذ به كتشريع و لكن تأخذ به كحقيقة فهو حقّ و وحي من حيث أخذك به كحقيقة و ليس هو وحي من حيث أخذك به كحكم شريعة حتى أنهم قالوا فيه ( كان يمزح و لا يقول إلاّ حقّا ) أي لا يقول إلا حقّا من حيث كونه حقيقة في أصناف الحقيقة المتنوّعة و ليس كشريعة
أي ليس هو من أصناف وحي الأحكام لهذا حمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كلامه صلى الله عليه و سلم و حركاته و سكناته كونها كلّها حقّا لا ريب فيه حتى في مظهره الخارجي و في حياته اليومية و شؤونه الحياتية و إنّما أختصّ التشريع بالأحكام الدينية بينما تجاوز الحقيقة للأحكام الدينية و الدنيوية على حدّ سواء لهذا طالبهم بأخذ أحكام الشريعة و عدم التوقّف مع أحكام الحقيقة لأنّها حمّالة أوجه فهي مشاهد و كشوفات لذا قال الإمام سيدي أبو الحسن الشاذلي إذا خالف كشفك الصحيح الكتاب و السنّة فاعمل بالكتاب و السنة و ذر الكشف جانبا
أمّا كلامه صلى الله عليه و سلّم فله من الحضرات ثلاث حضرات :
- الحضرة الإلهية :
1 : وحي صادر من الحضرة الإلهية و هو أقسام منه وحي الأحكام و منه وحي الكلام و منه وحي الإلهام و منه وحي المنام
و سنورد بإختصار شاهد لكلّ صنف من أصناف الوحي الأربعة :
الأوّل : وحي الأحكام التي نزلت في القرآن و قد ألّف جماعة من العلماء في هذا الباب منهم القاضي ابن العربي رحمه الله تعالى في كتابه ( أحكام القرآن )
الثاني : وحي الكلام و هو يؤيّد في كلّ وجه أحكام القرآن ككلامه تعالى لسيّدنا موسى عليه السلام الذي كتبه في الألواح فهو وحي كلام صدر عنه حكم كفي قصّة المعراج حيث فرضت الصلاة خمسين صلاة رغم أنّ عامّة الأمر بالصلاة موجود في وحي الأحكام في القرآن لكن خاصية الأمر وردت في وحي الكلام فكأنّ وحي الأحكام للأعمال و وحي الكلام للأحوال و من هنا قال كلّ عارف حدّثني قلبي عن ربّي كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( وهب لنا مشاهدة تصحبها مكالمة ) بخلاف سيّدنا موسى فهو في أثناء المكالمة سأل النظر من سطوة حال القرب عليه السلام
بينما سأل الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه مشاهدة ( و ليس نظر ) تصحبها مكالمة و هذا أمر مختلف لكون الكلام أخصّ من وحي الأحكام لتعلّق الكلام بمجال القرب إذ لا واسطة فيه بخلاف وحي الأحكام واسطته الملك ( سيدنا جبريل عليه السلام ) فلمّا تعلّق الكلام بالقرب تعلّق السؤال بالنظر مع إختلاف بين المشارب فيما بين أهل الله تعالى سواء من ساداتنا الأنبياء أو ساداتنا الأولياء عليهم جميعا السلام مع التنبيه على علو درجة الأنبياء على درجة الأولياء لأنّ الأنبياء معصومون بخلاف الأولياء فهم محفوظون وربّما متى شاء الله تعالى كتبنا حول هذه الفروق بين النبوّة و بين الولاية لكوني قرأت تخبّطا كبيرا في ذلك من طرف عدد من مقتحمي هذا الميدان بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير
الثالث : وحي الإلهام و هو المعبّر عنه عند النبي صلى الله عليه و سلّم بقولنا فيما يرويه عن ربّه و هو الحديث القدسي و أغلب تعلقاته ليس بوحي الأحكام بل بمعرفة الله تعالى سبحانه خصوصا معرفة صفاته العليا المقدسة كالحديث الوارد فيه ( فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به و....الحديث ) فهذا من أحاديث الصفات بابه باب وحي الإلهام و في هذا المجال شارك الأولياء رضي الله عنهم الأنبياء في هذا المقام و لكن ليس على نفس درجة الأنبياء متى علمت الفروق بين الصنفين من حيث العصمة من عدمها
لهذا تعيّن تفسير حدّ الشيطان في نفثه و معرفة خواطره إجمالا و تفصيلا و معرفة خواطر النفس إجمالا و تفصيلا في جميع المراتب حتى لا يلتبس على المؤمن النفث من الإلهام لقوله تعالى ( وَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) فكما أنّ العارف يكتب إلهاما من الله تعالى فكذلك صاحب الجدال فهو يكتب بنفث من الشيطان لهذا تعيّن تفسير هذا النفث و حضرة إستمداده و حيله و كيده و مكره ...الخ و لو لا كوننا في موضوع تدبّر الأحاديث كنّا فصّلنا طرفا و الله يحفظنا من الشيطان في خواطرنا ظاهرها و باطنها .. إنّما أكتب بإيجاز لأن تفصيل هذه المباحث يحتاج إلى أوراق كثيرة
الرابع : وحي المنام و هو كما يكون للأنبياء عليهم السلام فقد يكون للأولياء رضي الله عنهم كما قد يكون لعامّة المسلمين و خاصتهم لكن عند الأنبياء قد يكون منه ما هو من قبيل وحي الأحكام كمفردات الآذان فقد رواى الأئمّة كونها كانت رؤيا منامية لأحد الصحابة رغم كون تشريع الآذان للمناداة للصلاة سبق ذلك و لكن نتكلم عن تشريع المفردات ثمّ من هذا الوحي ما يكون من جنس الأحكام الخاصّة كرؤيا سيدنا إبراهيم عليه السلام من ذبح ولده ومنه ما هو من قبيل الإخبار بالمقامات والأحوال كرؤيا يوسف عليه السلام و منه ما هو رؤيا لأحداث قادمة و هذا أمر كثير و مشهور لهذا قسّم النبيّ صلى الله عليه و سلّم الرؤيا المنامية كونها إمّا من الله فهي الرؤيا الصالحة و إمّا من الشيطان و هي الحلم و الحلم من الشيطان
و إنّما يحاول الشيطان الدخول و هو من اليائسين على صنفين من هذه الأصناف من الوحي هما وحي الإلهام و وحي المنام و بما أنّ الأنبياء معصومون منه فلا يدخل عليهم في أي مجال من مجالات ذلك الوحي لكنّه يحاول كلّ مرّة الدخول عليهم رغم علمه كون ذلك لا طاقة له به ولا يستطيعه لذا قال ( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) و قد جاول مرارا و تكرارا لقوله تعالى ( و مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) فهذه الآية و إن كان يراد بها عامّة المؤمنين من حيث حرص الأنبياء على صلاحهم و إيمانهم فلا تخلو من ظاهر كون الشيطان يحاول مع الأنبياء محاولات اليأس
كما حاول ظاهرا ضد النبي صلى الله عليه و سلّم في غزوة بدر لما إرتدّ هاربا حينما رأى جبريل و الملائكة معه و كذلك قوله تعالى ( وَإ ِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) لهذا قال سيّدنا أيوب و هو في مرضه عليه السلام ( و اذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَ عَذَابٍ )
يتبع ...
كتبه : سيدي علي الصوفي