رياض الواصلين >> الحديث وفقه السيرة >> هل النبي مكشوف له كل شيء أو لا يعلم؟

20 ديسمبر 2017 09:41

أسيادنا الكرام... يثور تساؤل دقيق هنا حول: معرفة النبي بأنه نبي.. بمعني هل سيدنا رسول الله كان يعلم أنه نبي أو كان يجهل؟ ثم هل كان يعلم نهايات الأحداث التي ستؤول إليها أو لا؟
أسأل هذه الأسئلة لأن بعض المشاغبين علي السيرة النبوية يزعم أن النبي تفاجأ بالوحي والدليل - من وجهة نظرهم - هو خوف النبي وحيرته من ذلك الذي أتاه.. وأنه ذهب الي السيدة خديجة وقال: زملوني ...زملوني وهو في حالة نفسية سيئة - كما يزعمون- ، بل لم يكن مصدق أنه نبي بدليل ذهابه الي رجل يهودي أو نصراني وهو ورقة بن نوفل حتي يدله ويرشده الي أنه نبي!؟؟

فهل هذا يصدق.. أو أن للأحداث قراءة أخري لم ندركها بعد؟؟؟

كذلك بعض أحداث السيرة النبوية التي يبدو فيها الظاهر أن النبي لا يعلم. مثل: حادثة الإفك عندما يذهب الي زوجته ويقول: لو كنتي أذنبتي ذنباً فاستغفري..! هل النبي لا يعلم صدق وأمانة زوجته - وحاشاه - ... وغيرها من المواضع...

علي الناحية الأخري نجد أن النبي كان يعلم بدليل: يأتيه أحدهم فيقول له: بم تحدثك نفسك.. أي أنه يعلم ما يدور في نفس ذلك الشخص، أو في غزوة الخندق عندما يضرب علي الصخرة ويقول: فتحت قصور بصري واليمن وفارس...الخ أو عندما يُخبر بعلامات آخر الزمان... أو عندما يقول سيأتي قوم كذا وكذا....أو عندما ينظر الي مواضع قتلي بدر قبل المعركة ويرشد الي مقتلهم بالضبط، وما يقوله يحدث... الخ من هذه الشواهد التي تدل أن النبي كان يعلم ...وأنه كان عارفاً...وأن الغيب كان مكشوفاً معلوماً له عليه الصلاة والسلام، وقد قرأت في تفسير الامام الرازي أنه يقول: إذا كان المؤمن يري بنور الله، وله فراسة أُمرنا بالتقوي منها (اتقو فراسة المؤمن فإن ينظر بنور الله)، فما بالنا بالنبي الذي يُوحي إليه...؟

بل إن مقام سيدنا الرسول أعلي من مقام جبريل والملائكة وهذا واضح في سورة النجم وفي الإسراء والمعراج عندما يتفوق النبي علي الملك، ويلتزم الملك بحدوده، ويقول: لو تقدمت لاحترقت، ولو تقدمت أنت لاخترقت...

لكن يثور هنا تساؤل آخر: إذا كان النبي يعلم كل الأحداث التي مرت به، كحال - وعفوا علي التشبيه للإيضاح - من يشاهد فيلماً معلوم النهاية والأحداث والتفاصيل فهل كان ذلك اختباراً لنا أو أنه اتفاق إلهي نبوي.. أو ماذا؟؟؟

وأرجو أن لا تكون أسألتي تضايق السادة الكرام رواد المنتدي وعلي رأسهم سيدنا الشيخ علي الصوفي حفظه الله ورعاه وأمدنا بمدده...
طالب العلم
عضو جديد
مشاركات: 10
اشترك في: 14 ديسمبر 2017 10:52
آخر نشاط: 25 مايو 2019 13:34
مكان: cairo
العمر: 39
اتصال:

21 ديسمبر 2017 00:21


أخي طالب العلم :

أستسمح فضيلتكم وليتسع صدركم حضرة الفاضل المحترم للقول أن مثل هذه الطروحات التي تظهر في رسم أسئلة معقولة وطروحات قيّمة لا تعدو كونها خواطر فكرية لا يفيد الجواب عنها من عدمه لأن مثل هذه القياسات التي تطرح بين وقت وآخر في شكل تساؤلات من طرف كثيرين من الناس خصوصا ممن يعتبرون أنفسهم مفكرين وباحثين ... الخ فهي في حقيقتها خواطر شيطانية يوسوس لهم بها الشيطان من قبيل ما ورد في الحديث ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَكَ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَقُولُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقْرَأْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ )

لأن للشيطان وساوس يطرحها في شكل - العلم - ويوسوس بها للمفكرين من أهل الإلحاد خاصة والعلماء أيضا فضلا عن طلاب العلم مثال على ذلك من الواقع انظر في تلك الشبهات التي يطرحها ذلك الرجل التافه " اسلام البحيري المصري " فما هي في حقيقتها إلا وساوس يوحي بها الشياطين إليه كما قال تعالى في نوع من وساوس تلقيها الشياطين ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) فانظر حباكم الله تعالى إلى خطورة هذا الأمر ومدى تلبيساته

من هنا رفض العلماء العاملون وتصدوا لشياطين الإنس والجن كما ورد عن الإمام مالك رحمه الله تعالى لما سئل عن الإستواء قال ( الإستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة )

دعنا نأخذ كلمته الأخيرة التي غفل عنها الناس وهي قوله ( والسؤال عنه بدعة ) أي السائل عن مثل تلك الأسئلة التي تتعلق بماهيات تخص الشأن الإلهي لا مقدرة للعقول على فهمها واستيعاب معناها المراد ولا طاقة لها بالجواب عن كيفيتها لذلك عدّ الإمام مالك أن مجرد السؤال عن الإستواء هو بدعة في الدين وهذا القول منه فتوى أي أنه أفتى ببدعية من يسأل ويبحث عن كيفية الإستواء وما كان من البدع المتعلقة بالعلم الديني فهي ضرورة من وحي الشيطان وما كان من وحي الشيء لا يجاب عليه

لذلك كثر إلقاء الشبهات اليوم في أفكار الناس كل فرقة من الفرق الدينية تلقي شبهاتها في عقول العامة من المسلمين خصوصا جماعة الوهابية الذين دأبوا على القاء الشبهة تلوى الشبهة في مختلف البلاد بين العباد وافساد صفاء أفكار وعقول العامة حتى تشكك كثير منهم في مسائل عديدة فبقوا حيارى وهذا مراد الشيطان منهم إذ ليس هكذا يفسر الدين ولا هكذا تورد الإبل يا سعد

أجاب الإمام مالك رحمه الله على السؤال حتى يدفع ما بثه ذلك المبتدع من تشويش في عقول السامعين لذلك بعد أن أجاب أمر بالسائل فأخرج من مجلسه لهذا فلا يجيب العلماء على مثل تلك الشبه إلا لدفعها عن عقول الناس خشية الرسوخ أذهانهم فيتسلسل مددها الشيطاني فيغرق العبد في متاهات الوساوس لذا على العبد أن لا يترك للشيطان يلعب به ويترك له فرصة الهجوم عليه بمثل تلك الوساوس والخواطر لئلا يمسي حبيسها فيعسر علاجه بعد ذلك وحتى وإن شفاه الله منها فقلما تندثر آثارها من فكره وقلبه متى علمنا أن النارمهما خمدت تترك رمادا

فتحت هذا الباب لأقول أنه ليس كل سؤال يعتبر في حد ذاته سؤال فكم من أسئلة تراها اليوم مكتوبة على شبكة الأنترنت وهي في حقيقتها خواطر شيطانية ووساوس إبليسية غرق فيها العباد وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا .

طبعا سؤالكم هذا الذي سألتموه أعلاه لا يتعلق بما بيّنته في هذه المقدمة وإنما جرني الحديث إليها للتنبيه فقط جزاكم الله خيرا وبارك فيكم وفي علمكم وحسن ظنكم ...

اعلم أخي أن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم هو بشر من بني آدم قبل كل شيء لكن الله تعالى اصطفاه على جميع خلقه فجعله سيّد بني آدم على الإطلاق وإمام الأنبياء والمرسلين وصاحب الشفاعة والحوض والفضيلة والمقام المحمود ... الخ من خصوصياته صلى الله عليه وسلم المعلومة المشهورة التي سارت بذكرها الركبان

لكنه بعد كل ذلك يبقى عبدا تجري عليه أحكام البشرية من أكل وشرب ونوم ونسيان وحياة وموت ومرض وفقر وجميع صنوف الإبتلاء ومن كانت تجري عليه أحكام البشرية فأكيد أنه ليس بإله يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء ويرى كل شيء ويسمع كل شيء ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا نسيان أو غفلة ... الخ

فنقول :

لا يعلم سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلّم إلا ما علمه له ربّه ومثال على هذا ما ورد في حديث ناقته صلى الله عليه وسلم التي أضلت الطريق بقوله صلى الله عليه وسلم ( ... إن رجلًا قال محمَّد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها ) ...

لكون العارف بالله تعالى بداية بساداتنا الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لا تتعلق هممهم بأخبار الأكوان ومكاشفات الأعيان وإنما قد ترد عليهم تلك المكاشفات في وقت دون وقت لحكمة يعلمها الله تعالى ولا حرج بعد هذا أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير أو القليل من أمر المكاشفات المتعلقة بالأكوان لأن همته لا تتعلق بغير ربّه فهو ومن سار على خطاه صلى الله عليه وسلم لا تتعلق إلا بالحضور مع الله تعالى وشهوده في كل شيء حتى يتأدبوا معه عند كل تجلّ من التجليات فليس تعلقاتهم البحث عن أخبار مستقبل الزمان ومكاشفات المكان بقدر ما تعلقت هممهم بالله سبحانه لا بشيء سواه ملتمسين محبته ورضاه

ورد في هذا من الأحاديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال : إن لله تعالى أرضا من وراء أرضكم هذه بيضاء نورها وبياضها مسيرة شمسكم هذه أربعين يوما قالوا : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعني مثل الدنيا أربعين مرة فيها عباد لله تعالى لم يعصوه طرفة عين، قالوا : يا رسول الله أمن الملائكة هم قال : ما يعلمون أن الله خلق الملائكة قالوا : يا رسول الله أفمن ولد آدم هم قال : ما يعلمون أن الله عز وجل خلق آدم قالوا : يا رسول الله أفمن ولد إبليس هم ؟ قال ما يعلمون أن الله-عز وجل خلق إبليس قالوا : يا رسول الله فمن هم ؟ قال : هم قوم خلقهم اللهعز وجل من ضوء نوره .

هذا الحديث سواء أكان صحيحا أو ضعيفا ليس المراد منه اثبات درجة صحته من عدمها وإنما لاثبات أن التعلق بأخبار مغيبات المستقبل ليس من شأن أهل الله تعالى فقد تجد عارفا بالله تعالى لم يكاشف بشيء من مغيبات الأكوان أفضل عند الله تعالى بكثير ممن يخبر صباحا مساء عن مغيبات الماضي والحاضر والمستقبل لأن العلوم المتعلقة بأخبار الأكوان مجالها عالم المكاشفات لا عالم المشاهدات وبين هذا وذاك كالفرق بين المحجوب وبين العارف بالله تعالى

نعم قد تجد العارف بالله تعالى يتنزل من مقام عبوديته السامي الذي لا تعلق له فيه بغير ربه إلى مكاشفات الأكوان ليخبر عن أمر فيه مصلحة للأمة أو تحذير لها أو ترغيب كما قال صلى الله عليه وسلم ( ويل للعرب من شر قد اقترب قد فتح من ردم يأجوج ومأجوج ...الخ ) وكذلك جميع أخباره بالمستقبليات وكل ما حكاه من زمانه إلى يوم القيامة إنما كاشفه الله تعالى به ليحذر أمته ويرشدها إلى مصالحها فلم يكن ذلك الإخبار مقصودا لذاته

ومن هذا الصنف ما علمه سيدنا الخضر ولم يعلمه سيدنا موسى حول قصة أصحاب السفينة والغلام واليتيمين لأن همة سيدنا موسى لا تتنزل للبحث عن مكاشفات حوادث غيب الأكوان وإنما قد يكاشف بذلك من غير سعي منه أو قد يكون بطلب ذلك لحكمة جليلة فيها رضا الله تعالى لأن أهل الله تعالى أهل أدب دائما وأبدا

ثم بعد هذا يجب معرفة عالم الوظائف التصريفية في الوجود فتجد الملك من الملائكة أو الولي المتصرف سواء أكان هذا الولي نبيّا كسيدنا سليمان أو وليا كسيدنا الخضر أو ذي القرنين يطلعه الله تعالى على ما تصلح به وظيفته

كملك الموت مثلا قبل قبض روح أي بشر يعلم بأجل ذلك العبد وكذلك الملك الموكل بالأرزاق يعلم أن رزق فلان أو علان قد أستوفي وهكذا ويدخل في هذا المضمار أهل الوظائف من أهل الولاية كالخضر الذي قتل الغلام وخرق السفينة ... الخ ولا يجب أن يتسرب ذرة من الشرك الخفي أو الجلي إلى القلوب متى علمنا كونهم كلهم مقامون في عالم الوظائف ليس لهم من الأمر من شيء كما قال سيدنا الخضر ( وما فعلته عن أمري ) فافهم

فيقال بعد هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام مدينة العلم فمهما توجهت همته لشيء أطلعه الله تعالى عليه متى شاء وأراد تبارك وتعالى لكنه لا يتنزل عن مقام عبوديته الأقدس وفي هذا الموضوع تفصيلات كثيرة وبيانات طويلة ربما لذكر أصولها وتفريعاتها يستوجب كتابة مجلد

وفي هذا القدر كفاية واللبيب تغنيه جملة واحدة ومن الإشارة يفهم

والله تعالى أعلم

إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

21 ديسمبر 2017 08:45


بسم الله الرحمان الرحيم
اعذرني سيدي علي على تطفلي على مائدتكم
سيدي ما الفرق بين المكاشفة والمشاهدة وما العالم التي تنتمي اليه كل منهما ان صح السؤال ؟

فارس النور
عضو جديد
مشاركات: 26
اشترك في: 15 مايو 2017 12:57
آخر نشاط: 18 يونيو 2019 16:59
مكان: دمشق
العمر: 42
اتصال:

21 ديسمبر 2017 14:36

فارس النور كتب :
سيدي ما الفرق بين المكاشفة والمشاهدة وما العالم التي تنتمي اليه كل منهما ان صح السؤال ؟


1- المكاشفات = الكشف

الكشف متعلق بأخبار وأحوال الأكوان كالمكاشفة بالجنة والنار كقول حارثة ( كأني أنظر إلى أهل النار فيها يتزاورون ... ) فهي من نور اليقين فعند اشراق نور اليقين في القلب يرى العبد ببصيرته ما أخبر الله تعالى عنه في قرآنه ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ )

قال تعالى في حق المنتقل وهو في سكرات الموت إلى عالم الآخرة ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) أي ابصار عالم الآخرة فالشاهد هنا أنه تعالى ذكر أن ابصار عالم الآخرة لا يقع إلا عند كشف حجاب الحسّ

أي سواء بالموت والإنتقال وهذا يحدث لجميع الناس أو بالذكر ونفي الخواطر عن القلب حتى يشرق نور اليقين فيه وهذا يحدث للصادقين من المريدين من أهل الإرادة لذا قال الإمام علي في حق نفسه وفي حق أحد الصحابة ( لو رفع الحجاب ما ازددت يقينا ) أي لو رفع حجاب الحس بالموت أو الإنتقال أو على افتراض امكانية حدوث الرؤية الحسية البصرية ما ازداد قلبي يقينا لأن نور اليقين أشرق في قلبي فتمت مكاشفته

المكاشفة أنواع منها ما يحدث خلال السير وذلك يكون تعليما للسائر كما قال تعالى ( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) لكنه صلى الله عليه وسلم رأى آيات ربه بصيرة وبصرا لأنه عرج به جسما وروحا بخلاف ورثته من أولياء هذه الأمة الشريفة من أهل العبودية الخالصة من المتوجهين من المريدين

فهو يحدث لهم ببصر القلب الذي هو البصيرة وروحا لا جسما وكذلك العروج يحدث لهم روحا لا جسدا وهم في هذا العروج متفاوتون قال تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )

ومن المكاشفات ما يتعلق بأخبار الكون وما يؤول إليه مصير كل عين وهذا الباب لا يلتفت إليه السائرون لأنه باب التفات عن القصد لذا قيل ( ملتفت لا يصل ) لأن النفس تميل وتتعلق بمعرفة الغيوب ومستقبليات الحوادث وكذلك الشياطين لذلك كانت تسترق السمع في السماء كما قال تعالى ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا )

ووقائع المكاشفات كثيرة وأنواعها متعددة رغم أنه قد يكون عند التفصيل والإصطلاح يطلقون على مكاشفات المريد السائر أنه ولوج إلى عالم الإيقان بعد كمال الإيمان في قلبه فهذا من علم اليقين وعين اليقين لأن هذا اليقين هو تعليم للسائر القاصد ليشهد آيات الله في عالم الأنوار التي يحجب عن رؤيتها كل من لم يكمل إيمانه فهي من شؤون السير

قال تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) البيان هنا هو هذا السير في عالم الإيقان أي بحر اليقين وهذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل وبيان لوضع المصطلحات في مناسباتها حتى لا يقع الخلط ( قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )

قال في الحكمة العطائية ( ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة : الذي تطلب أمامك ولا تبرجت له ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها - إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ - )
وقال ( لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون " وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى " )

المكاشفات من شأن السائرين فهي نهاية مستوى معلوماتهم حيث أن المكاشف قد لا يكون عارفا واصلا أو مفتوحا عليه بالفتح الكبير في المعرفة الإلهية فليست المكاشفات دليلا على المعرفة لذا يقال للمريد " حدثنا عن مشاهداتك لا عن مكاشفاتك حتى نتبيّن شأنك ونعرف مقامك ) لذلك ورد عن الإمام علي أنه قال رضي الله عنه ( من تكلم عرفناه من ساعته .. )

لأن العارف الكامل يميّز بين مراتب المؤمنين كتمييزه للمبتدئين من المريدين وبين السائرين المتوسطين وبين المستشرفين وبين الواصلين من العارفين وبين الكاملين من المحققين الراسخين في العلم وهكذا فلا تخفى عليه مقامات ومراتب أهل السير أما قطبانيات ومعارف وعلوم وواردات العارفين فكل منهم مستقل عن الآخر كما استقل الخضر عن موسى عليهما السلام فلكل ولي حضرته وإن كان الجامع المشترك الذي يجمعهم هو معرفة الله تعالى

2- المشاهدات = الشهود

المشاهدة من شأن الواصلين من العارفين لتعلق الشهود بالرب المعبود لا بشيء سواه حيث يردون الفرع إلى أصله فلما كان الفرع الذي هو الكون يرجع إلى أصله الذي هو العدم كذلك تظهر للعارف أصول المعارف من حيث أن الأصل في التوحيد وجود الإله المعبود فلا يشاركه في هذا الوجود شريك ( أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي ( أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ) ينسب إليه الوجود بوجود الله واجب الوجود

فرجع الكل إلى العدم في نظر العارف فيقع منه تفسير هذه الأكوان كونها فيضا نورانيا من الرحمان فيعلو به العلم من عالم المكاشفات إلى عالم المشاهدات حتى يتلو قوله تعالى ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )

لأن الأمر في بدايته كما قال العارفون يكون فناء عن المخلوقات وذلك بشهود عدمها ثم الفناء عن النفس في المشهد الثاني فلا يبقى بعد ذلك غير ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ففنى من لم يكن وبقي من لم يزل فذلك معنى الحقيقة ثم يحيي الله تعالى من شاء من عباده فيخرجهم من عالم الفناء إلى عالم البقاء فيشهدون كل شيء من الأكوان عند رجوعهم الثاني قائم بالله ويرون كل ما سوى الله حيّ بحياته لا حول له من نفسه ولا قوة

وأن كل ما سواه فقير إليه فقرا ذاتيا لا ينفك عنه وأن كل شيء ملك له فهو فيض من نوره فيتلون عند ذلك في محراب عبوديتهم حقائق مشاهداتهم كما حكى السائرون من قبلهم عن غرائب مكاشفاتهم مع العلم أن العارف لا ينفك عنه عالم المكاشفات فمهما أراد الرجوع إليه رجع لكنه يراه بنظر جديد وفهم جديد لا كما يراه ويشهده السائرون إذ شتان بين المريد السائر وبين العارف الواصل .. ( هكذا قال العارفون )

من هنا تعلم أن قصائد أهل الله تعالى كقصائد سيدي عمر بن الفارض وغيره من ساداتنا العارفين يصفون فيها مشاهداتهم من حقيقة قوله تعالى ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) فيشهدونه في كل شيء كما قال سيدي محمد المداني رضي الله عنه في شجرة الأكوان في الصلاة على النبي العدنان ( وأوقد لي نور التوحيد من شجرة " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " )

كما حكى من قبلهم معلمهم ومربيهم صلى الله عليه وسلم سيد العارفين وإمام الواصلين صاحب الحوض المورود عن بعض مشاهداته في قوله ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء )

وقوله ( اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ .. )



إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:

22 ديسمبر 2017 00:08

أهلا بزميلنا: طالب العلم.
قد أجاب أخونا أ.علي جوابا رائعا في الموضوع، مع تنبيهه على ضرورة احتياط المرء، إذ قد يظن السؤال مشروعا محمودا، ولا يلتفت إلى أنه صدر عن حضرة نفسية أو نحو ذلك. وكلنا يقع لنا هذا، فنحتاج لليقظة المستمرة.
والحمد لله أن ما أجاب به السيد علي يتوافق مع دراستي السابقة للموضوع، وذلك في مكانين:
1- كتابي "استشراف المستقبل في الحديث النبوي." حيث بينتُ فيه التعامل النبوي مع الغيبيات. يمكن مراجعته للتوسع، بما في ذلك مسألة هل يعرف نبينا الغيوب أم لا، وكيف:
https://archive.org/details/ilyassbelga_hotmail
2- بحث لم ينشر بعد على نطاق واسع. تعرضتُ فيه لهذه المسألة بالذات، حيث ثار خلاف حولها في القرن 12 بين الشيخ اليوسي والشيخ عبد الملك التجموعتي الذي كان يرى أن نبينا يعلم الغيوب كلها حتى الخمس. بينما عارضه اليوسي. وقد حققتُ هذا الخلاف ورجحتُ كلام اليوسي عالم المغرب الكبير آنذاك.
ولله الحمد والمنة، فقد لاحظت أن ما وصلت إليه من نتائج بدراسة العلم الظاهر تتوافق مع ما كتبه السيد علي.. وهذا يدل على كمال الدين وأنه واحد، وأن الأمور لو حُققت بعلم وصدق فإن الشريعة والحقيقة لا تختلفان فيها ولا تنفصمان.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

25 ديسمبر 2017 17:29

شكراً دكتور إلياس علي الرابط المهم... بإذن الله أطلع علي الكتاب وأدون بعض التعليقات والمداخلات بشأنه..

بخصوص الشيخ عبد الملك التجموعتي فقد بحث علي الانترنت وقرأت أنه ألف رسالة في العلم النبوي سماها (ملاك الطلب في جواب أستاذ حلب) ليرد بها علي الشيخ أبو علي اليوسي، لكني بحثت عن الكتاب فلم أجده... فهل هو مطبوع أو لا يزال مخطوطاً؟

وهل بحثكم هذا منشور أو غير منشور؟ وكيف يمكن الحصول عليه أو الاستفادة منه..

خالص مودتي
طالب العلم
عضو جديد
مشاركات: 10
اشترك في: 14 ديسمبر 2017 10:52
آخر نشاط: 25 مايو 2019 13:34
مكان: cairo
العمر: 39
اتصال:

03 يناير 2018 01:56

أهلا بك،
لا أظن الكتاب طُبع. قرأتُ المخطوط من زمان.
وكنت لخصتُ أهم مطالبه في كتابي "الغيب والمستقبل"، لكن هذا الكتاب لم يُنشر بعد على نطاق واسع.
إن شاء الله أخبركم حين يتيسّر النشر..
خلاصة رأي اليوسي والجمهور أن علم نبينا واسع، بما فيه بعض الغيوب، لكن علّم الله من ورائه محيط. بينما التجموعتي قال بأن الله علم نبيه كل العلوم بحيث لم يبق فرق بين العلمين إلاّ أن علم الله قديم وعلم النبي حادث. وهذا غلو. بل علم الله لا يحيط به شيء ولا يشبهه شيء..
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:


العودة إلى “الحديث وفقه السيرة”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد